قد تبدو أحداث انتفاضة السترات الصفراء فى فرنسا ودول أوروبا المختلفة، مفاجئة لمن لا يتابعون حركة الاقتصاد والتجارة الدولية ومسيرة العولمة التى بدأت تتصاعد بقوة من بداية التسعينيات من القرن العشرين، حيث تبدو أحداث تجرى اليوم انعكاسا لأزمات بدأت منذ عشر سنوات، وربما تلد المزيد من الأزمات على الأصعدة المختلفة.
ولم تخل أوروبا من احتجاجات جماهيرية خلال السنوات الأخيرة، من قبل الطبقات الوسطى التى بدأت تعانى من أزمات اقتصادية وتشكو من ازدياد الضرائب، بينما تتهرب الشركات الكبرى من واجباتها.
لقد ورد الحديث عن اتفاقية المناخ، عند حديث الرئيس الفرنسى ماكرون على قرارات رفع أسعار الديزل لخفض الانبعاثات الحرارية، بينما التلوث فى العالم وانبعاثات الكربون هى نتاج لأنشطة الشركات الكبرى فى العالم التى تدمر الغابات، وتنتج المزيد من الغازات الملوثة وتؤثر على درجة حرارة العالم. ولهذا يعلن الفرنسيون من الطبقة الوسطى اعتراضهم على أن يسددوا ثمن الخراب الذى تسببه الشركات الصناعية.
فى فرنسا، اليسار يعترض على العولمة من سنوات، واليمين يحمل سياسات اللجوء مسؤولية المزاحمة، وهو أمر ظهر أكثر فى استفتاء البريطانيين الذين وافقوا على الخروج من الاتحاد الأوروبى «بريكست».
وسواء فى فرنسا أو بريطانيا لا يمكن فصل نتائج العولمة الاقتصادية عن أزمات العالم، وقد توقع نقاد العولمة قبل سنوات أن تظهر أزمات متوالية تعصف بهذا النظام الذى يفتقد للعدالة، وفى كتاب «العد العكسى للعولمة عدالة أم تدمير الذات»، صدر عام 2009، فى أعقاب الأزمة المالية العالمية، وهو من تأليف الألمانيان هرالد شومان وكريستيانة جريفة ترجمة محمد الزايد، وهو امتداد لكتاب «فخ العولمة هجوم على الرفاهية والديمقراطية»، الذى صدر عام 1996 تأليف هرالد شومان ومانس بيتر مارتين، كان يرى أن من عيوب العولمة غياب الرقابة السياسية الفعالة عن عالم المال والاقتصاد واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء.
وفى كتاب العد العكسى للعولمة يتابع الألمانى هرالد شومان رصد ما يرى أنه الآثار المدمرة للعولمة اقتصاديا، وأن الآثار ستظهر فى كل دول العالم بدرجات مختلفة، وتوقع شومان تفاقم مشكلات الفقر فى العالم بصورة كبيرة، حيث يتحكم فى ثروات العالم عدد محدود من البشر لا يتجاوز 50 ألف شخص، بينما يتم توظيف الحرية الفردية والحرية الرأسمالية لمصالح أنانية لعدد محدود من الرأسماليين.
ويشير هرالد فى مقدمة كتابه إلى أن التغير المناخى يهدد الملايين بالجوع والكوارث الطبيعية، والتهجير، بسبب فشل الحكومات فى توجيه الاقتصاد المعولم، حيث تنقسم البشرية بشكل حاد، إلى رابحين وخاسرين، وفى الدول الغنية تتعرض الطبقات الوسطى للفقر، فى حين تتضاعف ثروات النخب الغنية وتتهرب من دفع الضرائب، وفى بلاد الجنوب التى تطورت صناعيا وتقلد الدول الغنية فى الشمال، تبقى مليارات من البشر محرومة من ثمار العولمة، وتكتسحها تعاليم التعصب الدينى والنزعات القومية والعرقية المتطرفة.
وتوقع شومان أن يشهد العالم انتشار العنف وحروب التجارة والمواد الخام بما يعنى اندلاع صراعات ومشكلات وأزمات بسبب أنانية الأنظمة الكبرى للدول وقيام نظام عالمى يفتقد للعدالة، داخل الدول الغنية، وبين الدول الكبرى والدول الجنوبية. وهذه التوقعات تظهر على مدى السنوات الماضية وتتبلور أكثر، وتمثل أحداث فرنسا، أو بريكست بريطانيا أعراضا ربما تتطور، بعد أن كانت تبدو مقتصرة على دول الجنوب.