عادة عندما أستقل المترو إلى أى مكان قريب أو بعيد أشغل نفسى بالقراءة فى كتاب أو بالاستماع إلى موسيقى، وذلك هروبا من التركيز مع الناس والفرجة عليهم، ومؤخرا كنت قد اتخذت دفاعاتى وبدأت القراءة فى رواية «لاورا وخوليو» لـ«خوان خوسيه مياس»، ترجمة المبدع الجميل أحمد عبداللطيف، وبجانبى وقف رجلان ريفيان يناقشان ظروفهما، ولم أهتم.
كان صوت الرجلين عاليا، يمكن للجالس أو الواقف فى محيط بابين من المترو أن يستمع إليهما، أحدهما يشكو زوجته والآخر يهون عليه الأمر، تمنيت لو يخفضا صوتهما وتمنيت لو معى «سماعة التليفون» كى أستمع إلى موسيقى صاخبة، لكن ليس معى سوى الرواية التى أقرأ فيها «يبدو أننا ترملنا- قال خوليو بسخرية ليخفف من وطأة هذا الموقف الدرامى، مع أنه زاده تعقيدًا، إذ إن لاورا، بعد أن عاتبته على وصفه لمانويل بالمتوفى، انفجرت فى البكاء».
قال الرجل الشاكى «مطلعة عينى» ورد عليه صاحبه «يا عم كلهم كده» وظل يضرب له الأمثلة من السيدات اللواتى «ينكدن» على أزواجهن، وقال له «استحمل وعدى أيامك لن نستطيع أن نعود بالزمن للخلف» ثم مال عليه دون أن يخفض صوته وقال «على الأقل أحسن من بنات مصر».
قال الرجل «بنات مصر» وهو يقصد «بنات القاهرة» وحينها فكرت فى «كارثية» تفكير المصريين الذى لا يزال محتفظا بأسسه القديمة، وكنت أظن أن الدنيا تغيرت، وأن الجمل «الأكليشهات» التى كنا نرددها فى قرانا البعيدة قد انتهت، وأن ثورة الاتصالات قد أضاءت فى عقول الناس، وعلمتهم أن الإنسان فى كل مكان لا يوضع فى دائرة واحدة، وأن بنات القاهرة «جدعات وفضليات ومحترمات وعظيمات» مثل الكثيرات من نساء مدن وقرى مصر، بل أرى أن الظروف فى القاهرة تجعل من نسائها أكثر قدرة على المثابرة والتحمل وحماية الأسرة والدفاع عن حياة أبنائهن ومستقبلهم بشكل أكبر من الأخريات.
أنا لا أحب أن أحاكم الرجل الذى قال هذه الكلمة لأنه فى الحقيقة لا يعنيها، هو يحفظها، يستعيدها من ذهنه للتبرير والدفاع عن «نفسه ومن يشبهه» دون تفكير فى الجملة أو تأملها أو حتى اختبارها، وربما لم يتحدث من قبل مع أى امرأة من القاهرة، لكن تراثه الذى هو تراثنا جميعا هو من يجب أن يحاكم.
تحركت من الجانب الذى كنت أقف فيه وسرت حتى نهاية العربة، وعدت للقراءة «مانويل الذى صدمته سيارة الآن سكن منذ سنتين فى الشقة المجاورة لشقتهما. ورغم أن الثلاثة من نفس السن، فإنهما اعتبراه تحت وصايتهما، أو هكذا أعجبتهما اللعبة».