كان شيخ عرب بصعيد مصر، أحبه، بل عشقه كل من عرفه من أقصى جنوب البلاد إلى أقصى شمالها.
آلاف مؤلفة جاءت لتودعه فى مشهد جنائزى مهيب عاشه شيوخ وكبار وشباب من كل صوب وحدب، وكثيرون هم من أتوا من المحافظات المجاورة.
إنه الرجل الذي عاش وفي عينيه وفي قلبه مكان للجميع، لذا حزنت القلوب لموته وبكته العيون.
هكذا رحل عميد آل هيكل بالمراغة والشورانية والرياينة وسوهاج وأسيوط، انتقل إلى دار الحق وتبقى ذكراه وسيرته العطرة بيننا ولأجيال قادمة. ترك سيرة هي أعمار عديدة.
تفتحت عيوننا بينما كنا الصغار، تفتحت على ما سمعنا من حكايات تُروى على ألسنة الكبار، قوته فى إعادة الحقوق لأصحابها، وعن مشاركته للجميع في سرائهم وضرائهم.
كان رجلاً يطيب للجميع مجالسته والاستئناس به وهو البحر اللامحدود من المعرفة والوعي والعطاء والرؤى الثاقبة، فهو القارئ الجيد لما يجري وما يشي به القادم من الأيام. لقد كان شجرة وارفة الظلال استظل بظلها الجميع، رجل أعطى الكثير، إنه شجرة قطوفها دانية.
حدث وأن سألته: لماذا لا تترشح لعضوية مجلس الشعب وأنت المحبوب بين الناس؟.
رد قائلًا: هى خدمة الناس يا ولدى عايزه منصب.. دا واجب وفرض علينا وربك اختارنا لخدمة الراجل الفقير قبل الغنى وادانا اللى م اداهوش لعضو مجلس الشعب.. و"القبة" دى تاخدك من الناس وأنا مقدرش أبعد عنههم الرجل لابد أن يكون " شوافًا.. وعرافًا.. وخوافًا" هكذا نصحنا مثلما نصحه الأجداد.
خواف: تخاف من نفسك على نفسك.. وتعمل حساب كل كبيرة وصغيرة قبل الرد.. أن تحرص على الآخرين حتى يحرصوا عليك.
شواف: أي يملك الرجل قدرة على فرز وتحليل الآخرين من أول وهلة.. وألا تعاشر إلا الأصيل.
عراف: أي تعرف إلى أين تحملك الخطوة التى تنوى أن تخطوها.. تقدر المواقف قبل أن تقدم عليها.
يؤمن بأن الناس بالناس، والكل بالله كما يقولون.
تواجد بين الناس، يسبقه إليهم حبه لهم وحرصه عليهم وتمنياته لهم بكل الخير، لقد كان خيراً على قدمين.
لن أنسى يوماً كنت على مقربة منه فإذا برجل عظيم في قومه يأتي على رأس جمع من أهله وذويه، يأتي لزيارة فقيدنا هذا فإذا به يخاطبه وعلى مسافة ليست بالقصيرة، يخاطبه صائحاً: عليَّا الطلاق فى البر كله ما فى راجل حبيته زيك يا شيخ.
إنه الشيخ الستيني الذي أمتلك من الثروة الكثير، إذ كان والده رجل أعمال ناجح، بالإضافة إلى باعه الطويل في ميدان السياسة، رجل ذاع صيته من بني سويف حتى أسوان. شيخ ورث الكثير عن والده غير المال.
أعطى شيخنا وبسخاء، رأى أن المال لا يزيد عن ورق لا قيمة له ما لم يذهب إلى حيث قضاء حوائج المحتاجين، المحتاجين وغير المحتاجين الذين أحبوه فمنحوه أعماراً عديدة من الحب الذي لا يبلى ولا يفنى. وأن الاحتفاظ به، أي بالمال، يفقده قيمته، وكان يردد قولاً مأثوراً مفاده: تبذير المال يضر قومًا وينفع أقوامًا، أما حبسه فيضر صاحبه ويضر معه الناس أجمعين.
لقد طاب له كثيرًا ترديد: جميع ما في يد الإنسان عارية مستردة، ووديعة موقوته.
لم يسره أبدًا رؤية كوخ لفقير، وهو الذي يعرف جيدًا عبر ثقافته أنه لا فرق بين قبور الأموات في بطن الأرض، وأكواخ الفقراء على ظهرها، فالأول قبر ميت والثاني قبر حي.
ليس من شك في أن صفاء الأخلاق من نقاء الأعراق، لقد كان شيخنا مدرسة لتعلم الأصول والحكمة والمبادىء والقيم والأخلاق والجدعنة والشهامة والمرجلة على أصولها دون مبالغة، لقد كان أهلاً لكل ما سبق. إنه الرجل المضياف، والذي عن كرمه حدث ولا حرج،
لقد كان وبلا منازع رجل الفضيلة، ولا يخفى علينا كون الفضيلة للإنسان أفضل الأوطان.
لم يدخر جهدًا فى حل وإنهاء المشكلات والنزاعات بين الأفراد والعائلات فى كل محافظات وقرى ونجوع الصعيد، لقد حمل السلام أين حل ومتى حل.
لقد كان عظيمًا، العظيم كما يقولون: هو الذي يلقي في تربة الزمن بذور الخلود لتجنيها يد الأبد.
كان صاحب كاريزما، وطلة مختلفة، يصعب عليك قراءته، بينما تصبح أنت أمامه كتاباً مفتوحاً يقرأ سطوره وما بين السطور.
كان رحمه الله كريمًا، فانتقل إلى جوار الأكرم سبحانه وتعالي.
نعزى أنفسنا جميعًا آل هيكل في كل محافظات مصر، فى مصابنا الجلل، فى فقيدنا العلم شيخ العرب شيخنا وعميد عائلتنا خالي الحبيب الحاج تاج الدين زيدان مرسي هيكل.
مختار أبو الفتوح يكتب: محور صفط اللبن "محور الموت "
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة