فى المقالة السابقة فندت أحد مبررات مَن أيدوا إقرار أحكام أخرى غير التى جاءت بها آيات محكمات فى إطار ما يسمى بالتسوية بين النساء والرجال فى المواريث، وهو ادعاؤهم أن المواريث من الحقوق وليست من الفرائض، واليوم أتناول جانبًا آخر من مبررات أصحاب التسوية بين الرجل والمرأة فى الميراث، وهو محاولة إقناع الناس بأن تسوية البنت بأخيها ليس فيها إنقاص لنصيبه، لأن القدر المكمل لنصيب البنت لا يكون كنصيب أخيها، بل يكون من الوصية التى يملكها أبوهما فى حدود ثلث التركة.
ومشكلة هذا التبرير أن الوصية فى الميراث تنقسم إلى قسمين: وصية واجبة بالقانون بعد اجتهاد فقهى من الفقهاء المتأخرين، وهو مختلف فيه بين المشروعية وعدمها، والذين قالوا بالوصية الواجبة وأخذ القانون بقولهم جعلوها لأحفاد الميت الذين مات أبوهم أو أمهم فى حياة الجد، واشترطوا لذلك شرطين: الأول: أن يكون الأحفاد محجوبين عن الميراث لوجود أبناء للميت أقرب منهم درجة، والثانى: ألا يكون جدهم قد عوضهم فى حياته بما يمكن اعتباره تعويضًا لهم عن فقدهم الانتفاع بشىء من تركته لموت مَن أنجبوا هؤلاء الأحفاد فى حياته، ولو بقوا لورثوا مع إخوانهم وأخواتهم وانتفع هؤلاء الأحفاد بما ورثه آباؤهم.
ومن ثم، فإن الوصية الواجبة تعالج حالة خاصة لم يرد فيها نص، وهى معالجة توافق مقاصد شرعنا الحنيف، أما المرأة التى يقولون بتسوية نصيبها بأخيها من الوصية، ففيها نص محكم حدد نصيبها قطعيًّا، وليست خالية عن النص حتى تحتاج إلى اجتهاد، فالفرق بينها وبين مَن يستحقون الوصية الواجبة واضح جدًّا، وهى فاقدة لشرط استحقاق الوصية من ثلاثة أوجه: الأول: أن المرأة مستحقة لنصيب معلوم من التركة، وقد اشترط موجبوها عدم وصول أى شىء من التركة إرثًا أو تعويضًا لها. والثانى: أن هذا القول يتصادم مع نص مانع، وهو قول النبى، صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وإذا كانت الوصية يمكن أن تكون لوارث، فشرطها إجازة الورثة لها طواعيةً واختيارًا وليس بقانون يُفرض عليهم. والثالث: أن الوصية الواجبة لا تكون لبنات الميت، وإنما أولها الطبقة الثانية، وهى أول طبقة للأحفاد، ولا تكون للأخوات ولا لفروعهن أو فروع الإخوة أصلًا.
أما القسم الثانى من الوصية، فهو الوصية الاختيارية. والوصية الاختيارية كما يظهر من اسمها ليست إلزامية، فهى متروكة لرغبة صاحب المال يفعلها طالبًا للثواب أو يتركها، كما أنها لا تكون لوارث كالواجبة إلا أن يجيزها الورثة اختيارًا لا فرضًا بقانون. ولذا، فإن محاولة تبرير التسوية بين المرأة والرجل فى الميراث بكونها من الوصية الواجبة أو الاختيارية، كلام يخالف القواعد المعروفة فى فقهنا الذى نعرفه، ونوع من الخلط لا يقبله العقل.
وقول أصحاب التسوية فى الميراث إن الرافضين لتسوية المرأة بالرجل يتمسكون بقاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين»، ويتركون قاعدة الوصية الواجبة للوالدين والأقربين الواردة فى قول الله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»؛ هذا القول مردود عليه بأن قياس الوصية للوالدين والأقربين قياس مع الفارق؛ لأن قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» قاعدة قطعية فى وجوب العمل بمقتضاها بالإجماع. أما قاعدة الوصية للوالدين والأقربين، ففى بقاء حكم العمل بمقتضاها خلاف بين العلماء، حيث يرى جمهورهم أنها منسوخة الحكم بآيات المواريث، فقد كان العمل بها واجبًا قبل نزول آيات المواريث بنظامها الدقيق المبيِّن لنصيب كل وارث، ثم نُسخ حكمها بالنسبة للوارثين وانتقلوا من الوصية العامة غير المحددة إلى النصيب المحدد، واستدلوا على ذلك بقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ». وهذا الخلاف الثابت بين العلماء فى بقاء حكم الوصية للوالدين والأقربين يوجب، حسب ما يعرفه الدارسون لأصول الفقه، عدم الاحتجاج بقاعدة الوصية للوالدين على الرافضين للتسوية؛ لعدم جواز الاحتجاج بالمختلف فيه، وأنه لا تقوم به حجة على المخالفين، ولا يجوز جعله أصلًا فى قياس، وقد أخرج البخارى فى صحيحه عن ابن عباس، رضى الله عنهما، قال: «كَانَ المالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ».
ومن المبررات العجيبة للقائلين بالتسوية فى الميراث، قولهم إن الغرب أدرك الإنصاف قبلنا، فإنهم يسوون بين المرأة والرجل إنصافًا لها، كما أن تركيا تفعل ذلك منذ زمن دون اعتراض ولا ضجيج! وهذا كلام عجيب غريب، فلا يجوز الاحتجاج بالمخالفة على مشروعية، وإذا كانت تركيا أو غيرها تفعل ذلك فهو باطل شرعًا، لمخالفته للنصوص القطعية، فكيف يستدل به على مشروعية مخالفة مماثلة؟! إن هذا الكلام العجيب ينسف نظام المواريث الذى يقولون ببقائه مقدسًا دون مساس، ثم يطبقون بين الناس نظامًا آخر يعتمد على تشريع وضعى، وهو قول لم يقل به إلا مَن اختاروا العلمانية فكرًا ومنهجًا وتركوا الاحتكام لأحكام الشريعة، ولو أن أصحاب هذا التوجه أعلنوا ذلك ما اعترض عليهم العلماء وما تعرضوا لكلامهم أصلًا، كما لم يتعرضوا لما يفعله الغربيون، لكن المشكلة بل الكارثة أن القائلين بالتسوية يرون ما ذهبوا إليه تطورًا فقهيًّا تقبله الشريعة!
والأعجب من ذلك كله اعتبار ما يفعله الغربيون موافقًا لمقاصد شريعتنا، بل اعتباره سبقًا لهم علينا! ولو صح هذا التبرير العجيب الغريب لوجب القول بجواز أن يجعل الرجل كامل تركته بعد وفاته لبعض الورثة دون بعض كما تفعل بعض دول الغرب، أو يجعله لغير الورثة كالصديقة مثلًا، أو حتى لحيوان يقتنيه كقطة أو كلب لينفَق عليه من هذا المال بعد وفاة صاحبه! ولعل القارئ الكريم يتذكر قصة حملتها لنا الصحف قبل سنين عن امرأة غربية أوصت بقصرها ومالها لقطتها بعد وفاتها!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة