بعد مرور عام على رحيل الكاتب الكبير والمؤرخ والمعلم صلاح عيسى، لايزال يضىء بأعماله وكتاباته المتنوعة التى جمعت بين السهولة والعمق والتدقيق، وبعضها بلغ مراحل متقدمة من الكتابة الساخرة، والآخر غاص فى أعماق التاريخ الحديث.
ومن حسن الحظ أن كتابا جديدا يصدر عن دار الكرمة للكاتب الكبير صلاح عيسى، فى ذكراه الأولى يتضمن بعضا من كتاباته ومقالاته ودراساته التى لم يسبق نشرها، والتى توزعت بين صحف الأهالى، حيث كان يحرر زاويته الشهيرة «الإهبارية»، قطعة فنية فى النقد السياسى والاجتماعى ودرسا فى كيفية الحوار، وتجمع بين السخرية وخفة الدم، والعمق وتقديم الأدلة، وتخلو من أى تجريح أو إهانة للطرف الآخر.وكانت درسا فى براعة اختيار العناوين اللافتة والمعبرة.
وفى الأهالى أيضا، كان يكتب يوميات بشكل دورى يقدم فيها قطعا أدبية وشاعرية، عن أساتذته وعن أحواله ومفارقات حياته وقصص لكتاب ومفكرين وأكاديميين، وتضمنت أجزاء من سيرته الذاتية فى الجامعة ومواقف مؤلمة كان يقدمها للقراء بأسلوب خفيف الظل يحول المعاناة إلى ضحكات مؤلمة.
وخلال عملنا مع الكاتب الكبير، فى الفترة من 2000 إلى 2008 تواصلت علاقتنا فى «القاهرة»، ودار الكثير من الحوارات والمناقشات، طلبت منه جمع سيرته، ومقالاته وأبحاثه المتناثرة فى صحف الثمانينيات من القرن العشرين، فى الأهالى وغيرها، وقال إنه بالفعل يجمع هذه المواد، وينظمها وسط انشغالاته الكثيرة.
قبل سنوات، فى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، كنت أعمل فى بعض الأبحاث التى تستلزم الذهاب يوميا إلى دار الكتب فى مبناها برملة بولاق وقتها بجوار الهيئة العامة للكتاب، وهناك فى قاعة الاطلاع كنت أشاهد الأستاذ صلاح عيسى منكبا على الدوريات والصحف يظل بالساعات يفتش ويكتب ملاحظات وتواريخ، وينزل إلى قاعدة الدوريات ليصعد بأعداد صحيفة أو مجلة، وكان نفس المشهد مع الكاتب الراحل الكبير محمد عودة، ولهذا قصة أخرى. كنت أسلم على الأستاذ صلاح، وأتركه لعمله، وأراقب تركيزه الواضح، ودأبه فى البحث والتفتيش والتوثيق.
وبعد سنوات عندما صدر كتابه رجال ريا وسكينة، سألته عما إذا كان وقتها يعمل فى الكتاب، حكى لى كيف أنه احتاج إلى مراجعة مئات الصحف والدوريات، وأن هذه الصحف كانت مجرد خطوة فى الإعداد للدراسة، حيث كان عليه أن يبحث ويفتش فى آلاف من أوراق القضايا فى أرشيف المحاكم، ليوثق سيرة ريا وسكينة.
وحكى لى الأستاذ صلاح عيسى، أنه بجانب الملفات القضائية، فتش فى الوثائق التاريخية، وعدد كبير من المراجع، المعروفة وغير المعروفة، بل إنه قال لى: كنت أحيانا أراجع تاريخا أو معلومة فى عشر صحف، وأجدها مختلفة فى كل واحدة، فاضطر لمراجعة ذلك فى ملف القضية، وكثيرا ما كنت أجد أوراقا منتزعة من الصحيفة أو ضائعة، بل إننى وجدت كثيرا من الكتاب والكتابات المعاصرة استندت إلى مرويات شعبية، وتجاهلت الحقائق المحيطة بقضية ريا وسكينة، وهو ما جعلها من أكثر القضايا التى ازدحمت بالأخطاء فى المعلومات، وقال إنه تتبع مسيرة عائلة همام من أقصى صعيد مصر إلى الإسكندرية، مرورا بكفر الزيات.
وفى النهاية، أجرى صلاح عيسى عملية تقطير وتصفية وتوثيق، ليستخرج من كل هذا الركام القصة الحقيقية لريا وسكينة فى سياق تاريخ مصر السياسى والاجتماعى والاقتصادى فى ذاك العصر، وهو ما يمثل عملا غير مسبوق ويقدم درسا مهما يظل عالقا فى ذهن كل من خدمه الحظ وعمل بجانب الكاتب الكبير صلاح عيسى.
كتاب رجال ريا وسكينة هو الدراسة التاريخية الوحيدة التى نفضت الكثير من الأساطير التى كانت ولاتزال عالقة بقصة أشهر مجرمتين فى القرن العشرين، وقد حرص صلاح عيسى فى مقدمة كتابه على الإشارة للأساطير التى أحاطت بالقصة، والكثير من الوقائع والمعلومات المغلوطة التى تسربت إلى الصحف والكتابات وقتها.
حكاية ريا وسكينة تحولت بعد القبض عليهما عام 1921 إلى أسطورة فى الخيال الشعبى والجمعى للمصريين، ونموذج للشر المجرد، فقد تم اكتشاف 17 جثة لنساء تم قتلهن ودفنهن فى البيوت التى سكنتها ريا وسكينة، وتم اكتشاف الأمر بالمصادفة، وبعد تعدد البلاغات، ولم يحاول أى من المؤرخين أو علماء الاجتماع تقصى حقيقة هذه الجرائم، أو دراسة الدوافع وراء ارتكابها، حتى قدم صلاح عيسى هذه السيرة الاجتماعية السياسية غير المسبوقة، وما أحاط بها من رجال ونساء ووقائع، قدمها صلاح عيسى بأسلوب روائى شيق مع عشرات الصور للأشخاص والأماكن والوقائع، حيث يرصد كيف كانت العصابة تقتل النساء وتسرق حليهن بحس متبلد «كانوا يدفنون الجثث فى المكان الذى يعيشون فيه، فيأكلون ويشربون ويتضاجعون، بل ويحششون ويسكرون ويتسامرون ويزنون فوق الجثث، وكأن ذلك كله شىء عادى.. وبذلك تجاوزوا حدود الطبيعة البشرية إلى التصرفات البربرية التى لا حد لشرها..»
ومن القصص التى عاصرتها، بعد صدور «رجال ريا وسكينة»، فقد تم تحويله إلى مسلسل لاقى نسبة مشاهدة كبيرة وقتها، ويومها كان العمل الدرامى يختلف فى الكثير من التفاصيل عن كتابة صلاح عيسى، كان الكاتب الكبير يقول إنه مسؤول فى النهاية عن الكتاب، وإن كان المسلسل بالفعل كان يقدم الكثير من التفاصيل التى تعرف لأول مرة، وتختلف عن حكايات بلا مصدر راجت حول السفاحتين. ولكل هذا مجال آخر. لكن تبقى قصة صلاح عيسى مع كتبه، فى حد ذاتها من بين الكثير من الحكايات التى تزين دفتر صلاح عيسى.