جمع صلاح عيسى بين سخرية الكاتب الشعبى، وعمق المؤرخ فى معادلة، قل ما تجتمع لدى كاتب واحد، وفى فى مناسبة مرور عام على رحيله يظل كتاب «رجال ريا وسكينة»، مثالا على قدراته فى العمل بشكل يجمع بين التشويق البوليسى، والصورة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. حيث يقدم «رجال ريا وسكينة» خريطة متعددة لمجتمع كان يعيش أجواء الأزمات والفقر والاحتلال البريطانى، ويسعى للحصول على استقلاله. وهو أمر ظهر فى الكثير من الأعمال التى عالج فيها التاريخ، مثل حكايات من دفتر الوطن، وهوامش المقريزى، وشخصيات لها العجب، حيث كان يكتب دراما تاريخية، شيقة، ومع هذا يلتزم بالتوثيق.
ويبدو صلاح عيسى الذى تحل ذكرى رحيله الأولى فى كتاباته قادرا على الجمع بين المادة الوثائقية، مع أجواء روائية، تقترب من الأجواء المحفوظية، ولهذا عندما تحول كتابه عن ريا وسكينة إلى مسلسل فقد حقق نجاحا بشكل كبير، وقدم لأول مرة تفاصيل عن حياة ريا وسكينة، والحياة الاجتماعية والاقتصادية التى تزامنت مع ثورة 1919 والتضييق من الاحتلال البريطانى على المصريين، ومواجهة مظاهراتهم بالرصاص.
وبسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة وانتشار الفقر، وامتهان أعداد من الناس لنشاط الكرخانات، وكتب نقلا عن مراسل «المقطم» السكندرى قول أحد الخفراء: «إن البيوت السرية منتشرة حتى فى أحسن أحياء المدينة، وأن عدد تلك البيوت يفوق عدد البيوت العلنية ويزيد عنها، وانتقد مواطن اسمه «محمد عبدالقادر القط» فى رسالة نشرتها له جريدة «الإكسبريس إن» البوليس السرى وقلم حفظ لا يزال غافلاً أو متغافلاً عن البيوت السرية ومحلات حرق الحشيش فى حى العطارين» وأضاف فى لهجة مبطنة بالتقريع: «إذا كان رجال البوليس عاجزين عن معرفة هذه البيوت، فإن الأهالى وأنا منهم، على استعداد لإرشادهم إليها».
وهنا ينقل صلاح عيسى الوضع من مجرد قصة لسفاحتين، قتلتا وسرقتا 17 امرأة، إلى كونهما كانا انعكاسا لعصر تنتشر فيه الجريمة، خاصة وأن الكرخانات وبيوت الدعارة السرية، كانت تنتشر ضمن انشطة كثيرة. ويكتب «كثيرون ممن كانوا يعيشون فى قاع المجتمع، حياة هى أقرب إلى الموت.. بحيث بدا لهم أن اختفاء ذوى رحماهم أمر لا يستحق الاهتمام». ويحاول تفسير خنوع حسب الله زوج ريا لعمل «زوجته قوادة، وتحول بيته إلى كرخانة زنا وهو ما يزرى بكرامته كرجل وصعيدى وتحول زوجته من ربة بيت مصونة إلى «كرخانجية» مشهورة.
وقد تحولت ريا وسكينة من نشاط بيوت الليل والدعارة، إلى اصطياد النساء وسرقتهن بعد قتلهن، بسبب توقف الرجال عن ارتياد الكرخانة، فضلا عن تركيبة نفسية لنساء قادرات لهن قلوب ميتة.
عندما تحول «رجال ريا وسكينة» إلى مسلسل كان يختلف عن الكتاب، وهو ما سعى صلاح عيسى لمناقشته مع القائمين على المسلسل، لكنه فى النهاية اكتفى بإبداء الملاحظات، خاصة أن العمل عكس روح الكتاب، وقدم الكثير من التفاصيل التى كانت تعرف لأول مرة، وتختلف عن أساطير راجت حول ريا وسكينة، مثلما فعل مع كل موضوع تاريخى أو معاصر تعامل معه، وهو أسلوب ارتبط بأعمال صلاح عيسى، حيث التاريخ يقدم كدراما يلتزم فيها التوثيق، من دون أن يتخلى عن التشويق ودرجة عالية من السخرية، ومن يرجع لكتاب رجال ريا وسكينة، يكتشف كيف كان صلاح عيسى يرسم مشاهد تجمع بين المرارة، والسخرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة