لم يقتصر المشهد الاحتجاجى غير المسبوق فى العصر الحديث، والذى تشهده العاصمة الفرنسية باريس على مجرد الهتاف أو رفع الشعارات المناوئة للحكومة الفرنسية بسبب سياساتها وقرارتها الاقتصادية، وإنما امتدت إلى حالة من العنف غير المسبوق، ليس فقط تجاه رجال الشرطة الفرنسيين الذين كانوا يقومون بدورهم الأمنى، وإنما استهدف المشهد الجمالى للعاصمة الفرنسية، والتى تعد أحد أجمل عواصم العالم، فى انعكاس صريح للأهداف التى يتبناها القائمون على تلك الاحتجاجات، والتى تتجاوز مجرد التعبير عن الغضب، لتصبح استهداف فرنسا ومستقبلها.
حملة التشويه التى تبناها المتظاهرون الفرنسيون تجاوزت الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وحكومته، التى تتبنى خططا إصلاحية، لتمتد إلى جدران العاصمة وشوارعها، بل والأكثر من ذلك معالمها، فى انعكاس صريح لرغبة المتظاهرين فى طمس التاريخ، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى استهداف قوس النصر فى قلب العاصمة الفرنسية، والذى يعد أحد أبرز معالمها، والذى بناه القائد التاريخى نابليون بونابرت لتخليد انتصارات الجيش الفرنسى، حيث بلغت تكلفة الأضرار الجسيمة التى لحقت به أكثر من مليون يورو، بحسب ما ذكر مركز الأثار الفرنسية.
الكتابة على الحوائط
مشهد متكرر.. التشويه سلاح النشطاء لاستهداف فرنسا
وهنا يبدو المشهد الفرنسى تكرارا لمشاهد أخرى شهدتها دول أخرى فى العالم، خاصة فى منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، ففى الوقت الذى يرفع فيه "نشطاء" الفوضى شعارات الحرية والعدالة والإصلاح لحشد آلاف المواطنين فى الشوارع والميادين، يتحركون نحو تحقيق أجندات أخرى تهدف فى حقيقتها ليس فقط إلى إضعاف الدولة وتقويض أجهزتها الأمنية، وإنما أيضا إلى تشويه تاريخها إلى جانب تدمير حاضرها ومستقبلها.
محاولات لتنظيف الحوائط بعد تشويهها بالجرافيتى
ولم يتوقف التشابه بين سلوك النشطاء الفرنسيين، ونظرائهم فى دول ما يسمى بـ"الربيع العربى"، على استهداف المعالم التاريخية، وإنما امتد إلى تشويه الشوارع، عبر كتابة الشعارات المناوئة للحكومة على جدران الشوارع، ورسم صور "الجرافيتى"، بالإضافة إلى التظاهر أمام الجمعية الوطنية الفرنسية "البرلمان الفرنسى"، وهو ما يعكس خطورة الوضع الراهن فى باريس، والذى قد يمتد إلى عواصم أخرى فى أوروبا، خاصة إذا ما نظرنا إلى التطور المتدرج الذى تشهده الأحداث، والتى انطلقت بالدعوة إلى التظاهر السلمى، لتتحول بعد ذلك إلى اشتباكات مع الشرطة، وتمتد بعد ذلك إلى استهداف البنوك والمحال التجارية وسيارات المواطنين، فى مشهد يعكس حالة من الفوضى غير المسبوقة فى مدينة النور.
نظرية المؤامرة.. عملاء الداخل سلاح القوى الدولية لتحقيق أجنداتها
ولعل الحديث عن أجندات دعاة التظاهر فى باريس لا يختلف كثيرا عن نظرائهم فى مناطق أخرى من العالم، وهو تحقيق الفوضى، وإضعاف الدولة واستهداف أجهزتها الأمنية، بالإضافة إلى دحض تاريخها، وهو الأمر الذى لا يمكن تحقيقه بعيدا عن وجود قوى داعمة لهم، سواء فى الداخل أو الخارج، لتحقيق أهداف سياسية، ربما يعجزون عن تحقيقها عبر الطرق السياسية المتبعة، بالتالى لا يجدون طريقا أخر سوى الفوضى وإثارة الانقسام داخل المجتمعات عبر حفنة من العملاء الذين يجدون فى دعواتهم ما يمكننا تسميته بـ"السبوبة" المربحة.
قوس النصر عانى من الاستهداف من قبل المتظاهرين
وتعد نظرية المؤامرة ليست بعيدة عن الأوضاع الراهنة فى فرنسا إلى حد كبير، ففى الوقت الذى تواجه فيه الحكومة الفرنسية تحديات كبيرة فى ظل الصراع السياسى مع اليمين المتطرف، فهناك تحديات دولية غير مسبوقة، فى ظل الموقف الأمريكى الجديد، والذى يتسم بمناوئته للنهج الفرنسى الذى يتبناه ماكرون، فى ضوء الدعم الكبير الذى يقدمه للاتحاد الأوروبى من جانب، وكذلك الخلافات الكبيرة فى المواقف بين فرنسا والولايات المتحدة تجاه العديد من القضايا الدولية، وهو الأمر الذى يثير امتعاض الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
يبدو أن الدعم الأمريكى لليمين المتطرف فى أوروبا، وفى القلب منها فرنسا، ليس بالأمر الجديد تماما، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى لقاءات جمعت بين مقربين من الرئيس الأمريكى مع زعماء التيارات اليمينية فى مختلف أنحاء القارة، وبالتالى فيمثل موقف الإدارة الأمريكية الداعم لها والمناوئ للأنظمة الحاكمة، بمثابة فرصة كبيرة للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية فى المرحلة الراهنة، كما أنه يمثل تكرارا لمحاولات إدارة أوباما من قبل للتنسيق مع تيارات ما يسمى بـ"الإسلام السياسى" فى الشرق الأوسط فى إطار محاولاتها لإبرام صفقات من شأنها مساعدتهم للقفز على السلطة مقابل تنفيذ المخططات الأمريكية فى المنطقة.
نشطاء فرنسا يشوهون الحوائط بالكتابة عليها
خطورة التحدى.. ماكرون لا يحتاج التراجع لاحتواء الاحتجاجات
وهنا تظهر خطورة التحدى الذى تواجهه فرنسا، حيث أن الأمر ربما لا يرتبط بمجرد إجراءات قد يتخذها الرئيس الفرنسى لاحتواء الغضب فى الداخل، لأن الهدف وراء الاحتجاجات العنيفة ليس مجرد التراجع عن قرارات بعينها أو السير فى مسار مختلف، ولكن يبقى استهداف الدولة ومؤسساتها هو الهدف الرئيسى فى المرحلة الراهنة، بالإضافة إلى الانتقال بالمسار الفوضوى نفسه إلى دول أخرى فى القارة العجوز بنفس الطريقة، وبالتالى فيبقى التعامل الحاسم مع الأوضاع هو السبيل لتحقيق هذا الهدف، وهو الأمر الذى أدركته الحكومة الفرنسية بإعلانها عن نيتها فرض حالة الطوارئ.
مظاهرات أمام مقر البرلمان الفرنسى
ويمثل الحديث الذى تتبناه حركة "السترات الصفراء"، والتى أكدت عزمها تنظيم احتجاجات مماثلة فى بروكسيل وبرلين ولندن، انعكاسا صريحا لخطة ممتدة لاستهداف الأنظمة القائمة فى أوروبا وإعادة هيكلتها فى المرحلة الراهنة لتتحول القارة بأسرها نحو اليمين، وهو الأمر الذى يحقق مصلحة أمريكية بالأساس، فى ظل رغبة الرئيس ترامب فى استعادة نفوذه داخل القارة وهو الأمر الذى لا يمكن أن يتحقق إلا بالتوجه الأوروبى نحو اليمين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة