يتساءل البعض: ما الذى يحدث فى فرنسا؟ وأنا أعرف الإجابة أعرفها تماما.
أعرف ما الذى يحدث الآن، وأعرف كيف تشكلت تلك الرغبة فى الاحتماء بالأعداد المهولة، والصيحات العالية، أعرف تلك الحالة بحذافيرها، أعرف كيف تتعالى الأصوات فتهتز الأركان، أعرف تلك النشوة وتذوقتها، أعرف كيف تستبد بالجماهير الرغبة فى تكسير كل شىء، فى تحطيم كل شىء، فكل شىء باطل مادام الرضا بعيد المنال، وكل شىء ممكن مادمت محتميا بالجماهير، بصوتها الجهور، بفوضاويتها المطلقة، بسخونة مشاعرها المتدفقة، بدبيب أقدامها الذى يشبه دبيب القلب، قلب الأمة، قلب الشعب.
أعرفها يا أصدقائى لأنى رأيتها عن قرب، بل غصت فيها حتى النخاع، أعرفها لأنى تذوقتها، تجرعتها، غمرت بها، ما يحدث الآن فى باريس حدث فى القاهرة منذ ثمانى سنوات، وما أشبه الشانزليزيه بميدان التحرير، وما أشبه قوس النصر بكوبرى قصر النيل.
أعرف تلك الحالة تماما، فأنا مدمن سابق، أعرف كيف تستبد النشوة بالحشود، يتعاظم الانتشاء إلى أقصى الحدود، تصل النشوة إلى مرحلة السكر، إلى مرحلة الغياب، مرحلة ينسى فيها الجمهور ما ذهب من أجله، ينسى ما يريد وينسى ذلك الخط الفاصل بين المطالب والأحلام، بين الواقع والخيال، بين الممكن والمستحيل، تنسى الجماهير كل شىء، ولا تتذكر إلا تلك الحالة، حالة السكر، يهون كل شىء أمام تلك الحالة، البعض يستمتع بالكتابة على الجدران التاريخية لقوس النصر، تماما كما يستمتع الأطفال بالرسم على الحائط، البعض يستمتع بتكسير تماثيله التاريخية المهمة، تماما كما يستمتع الصبيان بالعبث بصورة معلمهم، البعض يستمتع بسب أكبر رأس فى الحكومة أو الدولة، تماما كما يستمتع من تتشاجر معه بسبك بعد أن يبعد عنك بمسافة كافية.
شعب فرنسا العظيم، هل سكرتم بما فيه الكفاية؟ إذا استفيقوا يرحمكم الله، استيقظوا عند حدود المطالب، قبل أن تتحول أحلامكم إلى كوابيس، قبل أن تبدأ حمامات الدم، قبل أن يسقط الضحايا من الجانبين فيخبوا الحلم ويطفو الثأر على السطح، استيقظوا قبل أن تتحول المواجهات إلى صدامات، والصدامات إلى تكتيكات، والتكتيكات إلى استراتيجيات، رسالتكم وصلت، وصلت تماما، وما تفعلونه الآن يخبرنا بأنكم سكارى، بأنكم ذهبتم إلى خارج حدود العقل، ما تفعلونه الآن يخبرنا بأنكم تعبثون، يخبرنا بأنكم بدأتم فى نسج حبل المشنقة حول أعناقكم، بدأتم فى الإساءة إلى فرنسا وتاريخها ومظهرها الخلاب، يخبرنا بأنكم لا تشبهون فرنسا فى أى شىء، وأنكم لن تحظوا بتأييد من عالم يراقبكم بحسرة أو تشف، وأنكم ربما تقومون الآن بثورة، لكن بلا فولتير ولا سارتر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة