احتجاجات السترات الصفراء فى فرنسا وبعض دول أوروبا، تمثل شكلًا جديدًا يصعب القياس فيه على سوابق الماضى البعيد أو القريب، ومن الصعب أيضًا فصل أحداث باريس عن عالم ما بعد الإنترنت، حيث تمثل أدوات التواصل جزءًا فاعلًا مما يجرى وفى ترتيب الاحتجاجات والتصعيد. ولعبت مواقع فيس بوك وتويتر ويوتيوب وباقى أدوات التواصل دورًا فى تنظيم مظاهرات باريس. وكان نشر مقاطع لاعتداءات الشرطة على متظاهرين واعتقالهم بشكل يساهم فى تأجيج الغضب واستمرار التظاهرات، والدعوة لانضمام آخرين. وهى احتجاجات بدت مفاجئة فى حجمها وشكلها. تكشف عن سياقات جديدة، تختلف عما سبق من أشكال كانت تبدأ وتنتهى بمجرد التراجع عن الأسباب.
وهى مشاهد أعادت المقاربة فى التعليقات مع أحداث الربيع العربى، حتى مع اختلاف البناء الديموقراطى فى الحالتين. ولهذا لم يخل الأمر من محاولات التعامل معها على أنها تشبه ماجرى عربيًا، من حيث المصادمات والعنف ورفض التفاوض. كانت التحليلات تستبعد وجود احتجاجات واسعة مصحوبة بالتخريب فى الدول الديمقراطية. لكن حجم الصدام كشف عن خطأ التوقعات، حيث تجاوزت الاحتجاجات أسبوعها الثانى، وأسفرت عن أكثر من 150 مصابًا، و450 معتقلًا بخلاف تعطل مرافق حيوية، وإتلاف وحرق مبانٍ وسيارات حكومية وخاصة. وإغلاق طرق، واتساع الكر والفر وحروب الشوارع بين الأمن والمحتجين.
ومن علامات كون الاحتجاجات جديدة وترتبط بتداخلات بين تيارات مسيسة وأخرى تنضم لأول مرة، وجود تناقضات داخل الحركة وتعدد القيادات، حيث أعلن 8 من المحتجين أنفسهم زعماء، من دون الاتفاق على ناطق واحد أو قيادة محددة، و عندما دعا رئيس الوزراء إدوارد فيليب، ممثلى «السترات الصفراء» للقاء بقصر ماتينيون، حضر اثنان فقط من ثمانية، وأعلن بعض أصحاب السترات الصفراء عدم اعترافهم بهؤلاء كممثلين لهم أو متحدثين باسمهم. وهو ما دفع رئيس الوزراء لإعلان رفض لقاء السترات الصفراء.
التناقض لم يكن فقط من نصيب السترات الصفراء، لكنه ظهر داخل الرئاسة والحكومة الفرنسية، ففى بداية الاحتجاجات أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون رفضه تقديم تنازلات لمن وصفهم بـ«مثيرى الفوضى». لكنه تراجع وأعلن تعليق القرارات ومع هذا بقيت احتمالات اتساع المظاهرات قائمة.
فرنسا مثل باقى دول أوروبا الديمقراطية عادة ما تواجه احتجاجات متكررة ضد قرارات اقتصادية أو فرض ضرائب، لكن العادة جرت أن الاحتجاج يتوقف بعد التراجع عن القرارات أو بالتفاوض مع النقابات والمعارضة. لكن المفاوضات لم تنته لنتيجة، و بدت قرارات الرئيس إيمانويل ماكرون، بضرائب ترفع أسعار الوقود، هى السبب، لكن تعليقها لم يساهم فى وقف الاحتجاجات، التى تبدو أنها فى سبيلها للاتساع.
ويتوقع محللون أن الأوضاع فى العاصمة الفرنسية تتجه نحو الأسوأ مع ارتفاع حدة التظاهرات. وقالت الرئاسة الفرنسية فى بيان، إن الرئيس ماكرون طلب من وزير الداخلية تهيئة قوات الأمن لمواجهة الاحتجاجات فى المستقبل. وهناك توقعات بأن تمتد عدوى الاحتجاجات من فرنسا إلى أوروبا، فى ظل تصاعد الغضب لدى قطاع كبير من الأوروبيين على السياسات التى تتبناها حكوماتهم، واستغلال اليمين للأزمات من أجل الإعلان عن صحة مواقفه تجاه مشكلات اللاجئين ووقف الهجرة التى يعتبرها اليمين جزءًا من أسباب الأزمات الاقتصادية. وظهر منشور تم تم توزيعه على المحتجين، يلقى اللوم على المهاجرين فى العنف ونشرت صحيفة «التايمز» البريطانية فى تقرير لها، إن المتطرفين يقفون خلف أغلب أحداث العنف فى باريس، وقالت إنهم يسعون لتحويل الاحتجاجات على زيادة الضرائب إلى ثورة متفجرة كاملة، ونقلت « التايمز» عن جاين يفيس كامو الباحث فى المعهد الفرنسى للشؤون الدولية، أن متطرفى اليمين واليسار أدمجوا أنفسهم بحركة السترات الصفراء، وهدفهم ليس فقط استقالة ماكرون ولكن الإطاحة بالنظام بأكمله.
كل هذا يشير إلى تحولات فى خرائط السياسة بأوروبا، وهو ما حاولت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية رصده باعتبار احتجاجات فرنسا ضد السياسات الاقتصادية للرئيس ماكرون تعكس أزمة داخل الديمقراطية الغربية، وطموحات قادة مثل ماكرون. لكنه يتجاوز مستقبل الرئيس الفرنسى إلى مصير أوروبا وسياساتها المتوقعة.