عباس شومان

نظرات فى مولد البشير

الخميس، 06 ديسمبر 2018 06:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تحدثت فى مقالة سابقة عن مشروعية الاحتفاء بميلاد النبى محمد، وغيره من الأنبياء، عليهم صلوات الله وسلامه، وقلت هناك إنه لم يُفرض علينا الاحتفال بميلاد رسولنا الكريم ولا بميلاد غيره من الأنبياء، فلا شىء على التارك، ولكن ليس له أن يمنع الفاعل أو يحرم عليه فعله؛ لأن المنع والتحريم لا يكون إلا بدليل قطعى الدلالة، ولا وجود لهذا الدليل بين نصوص شريعتنا السمحة، بل إن المدقق لا يعدم أدلة على الجواز، وقد سقت بعضها فى تلك المقالة.
 
وهنا ألقى نظرة على بعض جوانب حياة النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن ميلاده مجرد ميلاد طفل يزيد به عدد مواليد الكون رقمًا إضافيًّا، فيتبين عند كبره تأثره وتأثيره فى مجتمعه سلبًا أو إيجابًا شأنه شأن غيره من البشر، لكنه فى الحقيقة كان إيذانًا بميلاد عصر جديد وزوال عصور أخرى اختلت فيها الموازين وعاش الناس خلالها فى جهالة وظلام.
 
ولم ينتظر الكون حتى يشب المولود ويبلغ أشده ليكشف لنا عن تأثيره فى محيطه ومجتمعه كله، فبدأت البشارات على خلاف العادة مصاحبة بل سابقة لمولده وهو لا يزال جنينًا فى رحم أمه حين رأته نورًا يخرج منها مضيئًا للكون كله، وغير ذلك من أحداث عظيمة، ناهيكم بسلوكياته وأخلاقه التى كانت على خلاف ما كان عليه أقرانه؛ فقد بلغت أخلاقه الكريمة ذروة سنام الأخلاق التى عرفناها فيما بعد من سنته المشرفة قولًا وعملًا، ولمَ لا وقد بُعث، صلى الله عليه وسلم، ليتمم مكارم الأخلاق؟!
 
ومع كل هذه البشارات، لم يكن أحد من الناس يتصور أن هذا المولود سيتغير به وجه العالم شكلًا ومضمونًا بعد أربعين سنة من مولده حين يصبح خاتم المرسلين، ولم يكن أحد يتوقع أن يتم هذا النبى المصطفى دين الإسلام ورسالته الخاتمة بجميع أركانها ومبادئها العامة وأحكامها الأساسية فى أقل من ربع قرن من الزمان، مما جعل المنصفين من المؤرخين وعلماء النفس والاجتماع من المسلمين وغير المسلمين يقرون بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان معجزة فى حياته كلها وليس فى القرآن العظيم الذى أوحى إليه فقط؛ فقد صنعه الخالق عز وجل فريدًا فى صفاته الخلقية والخلقية، وأمده بكل المقومات الشخصية لنجاح دعوته العالمية؛ حيث يقول المولى عز وجل: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ». ونظرة سريعة لما كان عليه المجتمع قبل مولد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أصبح عليه بعد ثلاثة وعشرين عامًا هى عمر دعوته؛ تجعل الناظر يدرك بجلاء أن ما حدث لهذا المجتمع يستحق عدة قرون من الزمان وليس ثلث حياة النبى أو ما يزيد عليها قليلًا.
 
ومن الجميل ونحن نحتفل بميلاد النبى الخاتم - صلى الله عليه وسلم - أن يصدع العلماء فوق المنابر وأمام كاميرات التلفاز وميكروفونات الإذاعة، مرددين على الناس مآثر النبى ومعددين صفاته وأخلاقه، ولا بأس من إدخال السرور على الأهل والأقارب بشراء بعض الحلوى ابتهاجًا بذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم - لكن دون إجهاد للعقول والجيوب فى توفير هذه الحلوى، فإن تيسرت بلا إرهاق فلا بأس بها، وإلا فليست فريضة ولا سنّة، ولكن الأجمل والأفضل من كل هذا هو إلقاء نظرة متأنية هذه المرة وليست سريعة على حالنا  المعاصر مقارنة بحال الرعيل الأول الذى أسسه الهادى البشير، ولا شك أن هذه النظرة ستظهر تراجعًا وخللًا كبيرين عما كان عليه المجتمع فى عصر النبى - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام وتابعيهم - رضوان الله عليهم.
 
وأبرز مثال على ذلك أخلاقيات كثير من الناس التى عادت إلى أسوأ مما كانت عليه فى العصر الجاهلى! فالكذب أصبح من الأمور المعتادة فى حياة كثير من الناس فى زماننا، وكأن هؤلاء القوم لم يعلموا أن رسولنا الكريم الذى يحتفون بذكرى مولده قد أعلمهم أن المسلم ربما يتصور ارتكابه بعض الكبائر، إلا أنه لا يكون كاذبًا. ومن الأخلاقيات التى تردَّت فى زماننا، مضايقة الجيران وعدم مراعاة حقوقهم، وكأن الناس لم يسمعوا قول رسولنا الكريم: «لا يزال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بى مَن بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم». ومن ذلك عقوق الوالدين الذى لم يعد يقلق العاق، فهو يتعامل مع والديه كبعض مَن يتعامل معهم فى يومه؛ فإن أغضبهما اليوم فالزمان وشفقة الوالدين المعتادة كفيلان بأن ينسياهما حجم الإساءة، وكأن العاق لا يعلم أن عقوق الوالدين من عقوق الله عز وجل ودرب من دروب جهنم. ومن ذلك أيضًا أكل أموال الناس بالباطل، والخوض فى أعراض الناس، والغش والخيانة، والتقاعس فى العمل وعدم إتقانه، والاستهانة بالفرائض، وإلقاء الأذى والمخلفات فى عرض الطريق، وشهادة الزور، والشحناء والبغضاء بين أقرب القرابة، فضلًا عن غيرهم من الناس، وغير ذلك كثير مما لم يعد يخفى على أحد، ولا ينكر وجوده إلا جاحد لضوء الشمس فى واضحة النهار. ومعظم أبطال هذه الحال المؤسفة التى تظهرها النظرة المجردة إلى واقعنا المعاصر، هم مع الأسف الشديد ممن يسارعون إلى محلات الحلوى وسرادقات الاحتفال بميلاد النبى كلما أعلن عن دخول شهر ربيع الأول! وهذا تناقض لا يليق بالمؤمنين بدينهم المحبين لرسولهم.
 
ومن ثم، فإن الأهم فى سياق الحديث عن الاحتفال بميلاد الأنبياء - كما ذكرت فى أكثر من مناسبة - هو كيفية الاحتفال وليس حكمه، وهو ما ينبغى أن يتحدث الناس فيه، فكثير من احتفالات الناس مخالفة لقواعد شرعنا الحنيف، فالاحتفال برأس السنة أو ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام لا يكون بسهرات صاخبة، وارتكاب الموبقات التى حرمتها المسيحية قبل الإسلام، واحتفالنا نحن المسلمين بميلاد سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - لا يكون بشراء بعض الحلوى وتوزيعها على الأهل والأقارب، ولا أقصد بطبيعة الحال تحريم الحلوى بيعًا وشراء فى هذه المناسبة، ولكن أقصد الاكتفاء بها كمظهر للاحتفال، فالاحتفال بميلاد نبى من الأنبياء يكون بإحياء سنته، ونشر سيرته، والتأسى ببعض صفاته وأخلاقه فى إصلاح بعض الخصال المختلة فى سلوكياتنا، وتطبيق شريعته واتباع تعاليمه التى جاء بها، ولا شك أننا لو فعلنا ذلك أو بعضًا منه فى كل مناسبة للاحتفال، فسوف ينصلح كثير من خلل مجتمعاتنا.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة