كل شىء يتغير فى هذا العالم، ومثلما تعيد ثورة المعلومات حياة الناس فى العالم، فهى أيضًا تغير نظرتهم للسياسة. وفى ذروة الموجة الثالثة، هناك الكثير مما يحدث، والكثير مما ينتظر حدوثه، حيث أطاحت ثورة التكنولوجيا بالكثير من الثوابت التى بدا أنها استقرت.. ارتفع الوعى كثيرًا، وانخفض فى بعض الأحيان.
وأصبحت أدوات التواصل جزءًا فاعلًا مما يجرى، مع إمكانية التحكم فى الأمزجة والتحركات، أثرت أيضًا على شكل التفاعل مع عالم السياسة، وأصبحت جزءًا من صراعات السياسة، ففى حين تتواصل تحقيقات أمريكية فى تدخلات روسية فى الانتخابات من خلال حسابات «فيس بوك»، وهناك اتهامات بريطانية لروسيا بالتدخل فى استفتاء « بريكست»، ودفع البريطانيين للتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبى، وتحدثت المستشارة الألمانية ميركل عن تدخلات روسية فى دول الاتحاد.
وفى الولايات المتحدة ثارت قضية الأخبار الكاذبة والشائعات فى مواقع التواصل، والتى أثرت على فرص الديمقراطيين، فى حين اتهم معسكر ترامب «جوجل» بمساندة هيلارى.. إذا كان هذا يجرى فى الدول الكبرى، ومن الطبيعى أن ينعكس علينا، وفى حين يسهل «فيس بوك» و«تويتر» عمليات الديمقراطية، هناك آثار جانبية.
المؤكد أن ما قبل ثورة المعلومات ليس مثلما بعدها، وانتهت الأشكال القديمة للسلطة، حيث يحتل الاقتصاد رأس العملية السياسية، ولم تعد أجهزة الأمن بحاجة لتوظيف آلاف لمراقبة الناس وتوجيههم، بينما الناس يقدمون خرائط حياتهم كل لحظة، ولا يشعرون بأنفاس خبراء الأرقام وهم يحولون بصماتهم إلى نماذج يمكن توقعها، ليعيدوا رسم تصوراتهم عن التحكم فى المشترى والمواطن، وأيضًا فى الناخب.
وفى السياسة تحديدًا يرى ستيفن بايكر فى كتابه «الرقميون» أن معظم الناس لا يحبون التفكير بالسياسة، يغيرون المحطة التى يشاهدونها على التليفزيون، ويعتبرون هذه الوسائل تحمل تسلية أكثر من السياسة، ويشير إلى دراسات تؤكد رفض المواطنين الاستجابة لاستطلاعات الرأى، و12% فقط يستجيبون للاستطلاعات.
ويفضل الناس التسوق على السياسة، ويتركون علامات عن آرائهم وأمزجتهم، ولهذا يسهل على خبراء التسويق الرقمى معرفة تركيبة الناس، وكيف ينتزعون من جيوب الناس آخر ملاليم، ويحاولون تطبيق الخوارزميات التى يعرفون بها توجهاتنا التجارية، إلى أن يستخدموها فى تشكيل وجهات سياسية.. بمعنى أن يبيع السياسيون للجمهور أفكارًا وأوهامًا فى بعض الأحيان، ولهذا نجد ترامب وبوتين على «تويتر» و«فيس بوك»، و تحتل الرئاسة والخارجية والداخلية عندنا، وفى كل مكان مساحات وحسابات على مواقع التواصل، تنشر فيها بيانات مباشرة للجمهور ولا تنتظر الإعلام.
وكل هذا نتاج لثورة المعلومات التى تغير من شكل السلطة، وتتراجع قدرة السياسة التقليدية أمام الطرق الأحدث، فالناخب يحتاج من يحدثه عن الاقتصاد، ويترجم له البرامج السياسية إلى فرص عمل ومستقبل وتعليم وسكن وعلاج، ولا يميل كثيرًا إلى الخطب التى تزدحم بالكلمات الغامضة، والتى لم تعد تعنى له الكثير.
ويرى ستيفن بايكر أن هناك اختلافًا بين ما يطرحه بعض السياسيين، وبين تلقى المواطن لهذه الكلمات، حيث إن المفاهيم المبهمة التى ترافق عالم السياسة: حرية، ديمقراطية، عدالة، أمن، فرص، حقوق إنسان، رخاء، والتى يتعمد السياسيون إدخالها فى أحاديثهم وخطبهم التى يلقونها فى أثناء جولاتهم الانتخابية ودعاياتهم فى التليفزيون، هذه الكلمات تنعكس بشكل مختلف لدى كل قطاع من الجمهور.. كلمة عدالة تعنى بالنسبة لبعض الناس إعدام القتلة، ولآخرين إعطاء الأطفال الفقراء فرصًا متساوية فى تلقى التعليم بالمدارس
ويسعى السياسيون للبحث عن طريقة يخاطبون بها الناس بما يفهمونه، لكن المؤكد أن عالم السياسة أصبح مختلفًا عن الماضى، تغير الوعى وتغيرت التصورات، ولم تعد سياسة البيانات والخطب التقليدية تنفع لإقناع جمهور، لم يعد قابلًا للتشكل مثلما كان فى الماضى جمهور يخضع لأوسع عمليات بث فى التاريخ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة