أواصل قراءاتى فى الملف الأمريكى، وسياسات البيت الأبيض تجاه دول المنطقة العربية، وتأثير علاقتها الحميمة مع إسرائيل التى تعد أحد معوقات إقامة علاقات طيبة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية، وهذا ما كشفه البحث الذى حمل عنوان «لماذا تدعم أمريكا إسرائيل بهذا الشكل؟» للمؤلف سعيد مولاى التاج حيث يرى فى بحثه أن البعض يجزم أن العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية فى الآونة الأخيرة تمر بفترة عصيبة، بسبب تصلب مواقف الصهاينة من بناء المستوطنات ومن عملية السلام فى الشرق الأوسط عموما، ومنهم من يرى بأن التصريحات الأخيرة لبعض الأطراف من هنا أو هناك إنما هى محاولة للتهدئة وللملمة الملف والحؤول دون مزيد من التأزم. فى حين يعتبر آخرون أن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية متينة جدا وأكبر من أن تؤثر عليها مثل هذه الأزمات بسبب التحالف الاستراتيجى التاريخى بين الكيانين ولضعف الذريعة، فالعرب «للأسف الشديد» بوضعهم الحالى المتهرئ أهون من أن يعكروا صفو هذه العلاقة الحميمة أو يكونوا سببا فى توتيرها.
وفى حقيقة الأمر فالقراءتان تمتلكان جانبا من الصواب، فبالنظر إلى تاريخ وطبيعة العلاقة بين الكيانين يصعب القول بأن العلاقة تمر من عنق الزجاجة أو ما شاكل، فمنذ الإعلان عن «قيام الكيان الصهيونى» كان الدعم الأمريكى للصهاينة غير مشروط حتى فى أحلك الفترات وفى ظل ما سمى «الحرب الباردة» ويكفى أن نلقى نظرة على بعض المعطيات والأرقام والوقائع ليتأكد لدينا ذلك. فقد وصلت قيمة المساعدات الأمريكية لـ«إسرائيل» حتى عام 2008 حدود 101 مليار دولار سنوياً، واستعملت حقها فى النقض بمجلس الأمن الدولى أكثر من 45 مرة لصالح «إسرائيل» أو ضد قرارات تدينها.
لكننا إذا نظرنا إلى حجم التهديد الذى بدأت تشكله حماقات الإدارة الصهيونية على مصالح العم سام فى المنطقة، وكذا شعور الإدارة الأمريكية بفقدان التحكم والسيطرة فى المارد الصهيونى ومحاولتها إثبات الذات لنفسها بتحقيق تقدم على مستوى ملف الشرق الأوسط وعملية السلام العربية/«الإسرائيلية» بعد أن فشلت فشلا ذريعا فى تدبير ملفى العراق وأفغانستان خارجيا، والبطء الشديد فى تحقيق أى انجاز اقتصادى واجتماعى داخليا، يضاف إلى هذا الاستعلاء الإسرائيلى والإهانة التى تجرعها الأمريكيون غير ما مرة، ولعل آخرها الإعلان عن الاستمرار فى بناء المستوطنات ونائب الرئيس لم يغادر الكيان الصهيونى رغم أن التصريحات الدبلوماسية حاولت امتصاصها لكنها بدون شك كانت بليغة الأثر، فالصلف والعنجهية الأمريكية لا يمكن أن تبتلع مثل هذه الإهانة بهذه السهولة، فالعلاقات بين الدول تشبه إلى حد بعيد العلاقات بين الأشخاص وما يسرى عليها يسرى على العلاقة بين الدول والحكومات.
وعلى ضوء ما سبق، نتساءل هل حقا تمر العلاقة بأزمة هذه الأيام بسبب المستوطنات والوضع فى فلسطين؟ وهل تمارس: الدولتان سياسة لَىّ الذراع: بين إدارة فتية غارقة فى أزماتها تحاول التقاط أنفاسها بعد سلسلة الإخفاقات التى منيت بها السياسة الخارجية والعسكرية فى العراق وأفغانستان؟ ولصالح من تمارس «إسرائيل» هذه الضغوط؟ وهل فى استطاعة أمريكا اتخاذ خطوات للجم الصهاينة؟ وهل فقدت أمريكا السيطرة على صنيعتها فى المنطقة؟ وهل بلغ «اللوبى الإسرائيلى» من القوة أن يعلن عن استئناف بناء المستوطنات بأسلوب فج واستعراضى محرج لأمريكا؟
كل هذه الأسئلة مهمة وملحة لكن السؤال الأكثر جوهرية وعمقا الذى يشكل -فى نظرنا- المفتاح لفهم هذه العلاقة فى بعدها الاستراتيجى، والذى تمكننا الإجابة الصحيحة عنه من فهم طبيعة العلاقة غير العادية بين الكيانين وبالتالى امتلاك أدوات قد تمكننا مستقبلا من تقويض هذه العلاقة ومحاصرة «إسرائيل» هو: لماذا تدعم أمريكا «إسرائيل» بهذا الشكل؟ أو كما يقول محمد حسنين هيكل هو كيف تكون مصالح الولايات المتحدة الأمريكية جميعها فى حوزة العرب من المواقع إلى الموارد ثم تكون سياستها كلها ضد العرب؟
لكن قبل الخوض فى محاولة الإجابة عن هذا السؤال المصيرى، على أن أشير إلى مجموعة من الأسباب تدعو إلى تغليب وترجيح القراءة الأولى التى ترى فعلا أن العلاقة بين الجانبين تعرف تأزما حقيقيا:
1 - أنها تفتح أمامنا باب الأمل من أجل تغيير الواقع الدولى وموازين القوى لصالح المسلمين والعرب وتمنحنا إمكانية استثمار التناقضات فى المحيط الدولى لعزل «إسرائيل» شعبيا وسياسيا ودبلوماسيا.
2 - رغم أن البعض لا يزال يرى أن «إسرائيل» تشكل رأس حربة ضد محور الممانعة والمقاومة «حزب الله وحماس» فى المنطقة ويمكن أن تقوم بدور مهم واستراتيجى فى فرملة كل من إيران وسوريا، إلا أن هناك عدة تغيرات طارئة على الساحة الدولية «الحرب على الإرهاب، انهيار الاتحاد السوفيتى وظهور قوى جديدة اقتصادية وعسكرية كالصين وأوروبا، السيطرة الفعلية على مصدر النفط فى الخليج بعد عاصفة الصحراء، فشل المشاريع الوحدوية والقومية العروبية، بروز المد الإسلامى». ويعيها الصهاينة جيدا، فقد حذّر تقرير صدر عن معهد «تخطيط سياسة الشعب اليهودى» التابع للوكالة اليهودية الصهيونية من تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية فى العالم.
تراجع رأى فيه التقرير مصدر قلق لليهود و«إسرائيل». كما يؤكد التقرير أن التغييرات المهمة فى موازين القوى فى الساحة الدولية وظهور قوى جديدة ستدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى المساومة على الساحة الدولية وهناك خوف من أن تُضطر «إسرائيل» لدفع ثمن هذه المساومة. وكما يقول تشرشل ليس هناك عداوة دائمة أو صداقة دائمة وإنما هناك مصلحة دائمة. «يتبع»
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة