يوسف القاضى يكتب : رجل المحطة وغدر الزمان

الإثنين، 12 فبراير 2018 02:00 م
يوسف القاضى يكتب : رجل المحطة وغدر الزمان محطة قطار

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

خلال شهر كنت أتردد فيه على مصلحة الأحوال المدنيه بأسيوط ، كلما نزلت من القطار على رصيف محطة أسيوط ، ولأكثر من عشر مرات ، لفت إنتباهى رجل يختلف فى مظهره عن كل الرجال ، ولعل إشفاقى عليه هو الذى أبقى ذاكرتى حبلى بصورته ، هذا الرجل الذى هو ، من غير اسم ولا عنوان ، لو صادفه أى مخرج سينمائى ، لإستقى من ملامحه المأساويه شخصية سينمائية أضافت إلى شهرته شهرة ، ولعل ملامحه الأرستقراطيه التى يتمتع بها دفعتنى إلى أن أقف على الرصيف المقابل أتأمله ، لحيته كثة طويلة ، علق بها ما علق من الأوساخ والزيوت والشحوم ، وجهه حاد الملامح ، يعلوه رأس مستديرة طال شعرها ، أما باقى الجسد فحدث ولا حرج ، كل شيء فيه يشى بالقذارة ، ويدعو إلى التقزز والإشمئزاز ، وربما التأمل والتفكير ، من هم أهله ؟! ، من أين جاء ؟! ، أين ينام وكيف ؟! ، وأسئلة أخرى ، ربما كانت أكثر خطورة ، أبسطها سؤال مشروع تفرضه ملامحه التى توحى بأنه عزيز قوم ذل  : هل هذا الرجل معتوه ، أم أنه يخفى وراء حالته ما يخفى ؟! ، لا أنكر أن دموعى سالت ، يوم رأيته لأول مرة ، وبعد مشاهدات عديدة له ، دفعنى فضولى إلى الإقتراب منه أكثر فأكثر ، حتى أننى تجرأت يوماً ووضعت فى كفه بعضاً من المال ، وتشجعت أكثر بعد دعائه لى بالتوفيق وطول العمر ودموعه تنهمر من عينيه ، ذات صباح شتوى بارد ، وفور نزولى من القطار ، فاجأنى هذا الرجل بما ليس بحسبانى ، بل أدهشنى حين لم يخيب جميع تخميناتى وظنونى ، رأيته بشحمه ولحمه يجلس مستنداً إلى حائط الرصيف ، متدثرا" بـــ ( بطانيه ) متسخه يملأها الثقوب ، يقبض بأصابعه الرقيقة على قلم جاف ، يدون خربشات ما على مجموعة أوراق مرتبه لا أدرى من أين جاء بها ، ولا كيف وجدها ، كما لا أدرى أى خاطر مجنون ركب رأسى ، جعلنى أجلس بجواره أطالع خربشاته ، وأنا على أحر من جمر اللظى ، لعلى أقرأ بها ما يدلنى على سر هذا الرجل أو أجد وصفا" لحالته الغامضة ، فهو وديع جداً ، ونظراته حادة ، لا يؤذى أحداً ، ولا يسأل الناس ، ولا يتكلم إلى أحد ، وغيرها من الصفات التى لا يتمتع بها سوى الأكابر من الناس ، نهض الرجل كأن به مساً ، حين شعر بى أجلس بجواره ، أدار وجهه بسرعة البرق ، ثم راح فى نوبة بكاء ، مبتعدا" عن المكان حاملاً قلمه وأوراقه ، مخلفاً وراءه ألماً وحزناً وأسى مما جعلنى أفكر بالعودة إلى مجالسة ذاك الرجل المجنون ، وربما مرافقته وصحبته إلى الأبد ، لما فيه من الصفات التى لا يتمتع بها سوى العقلاء من البشر ، أجاركم الله من غدر الزمان ، أتمنى من أى مؤسسه خيريه بأسيوط إنقاذ هذا الرجل من معيشته المزرية وإقامته غير الآدميه على رصيف رقم ( 1 )  بمحطة قطار أسيوط     !










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة