اختار الكاتب المهم محمد شعير، أن يسلك طريقا مميزا وضروريا فى دنيا الثقافة، وهى أن يبحث طوال الوقت ويقلب فى الأرشيف الثقافى ثم يفاجئنا بكنوز ما كنا ندرى عنها شيئًا، أو يقدم صورة جديدة لما نعرفه تجعله كأننا نراه لأول مرة، وكنا نظنه مؤخرًا يسعى فقط خلف نجيب محفوظ حتى فاجأنا بكتابه المهم مذكرات الآنسة أم كلثوم ووثائق أخرى.
وفى هذا الكتاب الذى صدر ضمن سلسلة كتاب اليوم، يكشف لنا محمد شعير قدرًا غير متوقع من المفاجآت تتعلق بشخص كوكب الشرق، كلها تؤكد الثقة فى النفس التى كانت تتمتع بها السيدة التى حجزت لنفسها مكانا فى دنيا الخلود.
الوثائق الأربعة التى تضمنها الكتاب تقدم صورة متكاملة لأم كلثوم، فهى الطفلة المطيعة لوالدها وهى الصحفية التى تكتب المقالات المنطقية وهى التى امتلكت الثقة كى تحاور «هيكل» وتخوض معه فى السياسية، وهى المتمكنة التى تخوض المعارك مع أساتذتها تصل إلى حد المحاكم وتجادل فى فضل اللحن والصوت.
من جانب آخر فإن الكتاب يحمل كمًا كبيرًا من المعلومات «المفاجأة» من ذلك أننى صرت متأكدًا أن الكاتب الكبير الراحل محفوظ عبد الرحمن قد اعتمد على المقالات الثمانية التى أوردها شعير باسم «المذكرات» فى صياغة الحلقات الأولى من مسلسل أم كلثوم الذى حقق نجاحًا كبيرًا وقت عرضه، ومن المعلومات المثيرة أيضًا أن البعض يظن أن الموسيقار محمد القصبجى بعدما توقف عن التلحين أصبح «عوادا» فى فرقة أم كلثوم بينما الكتاب يؤكد أن أم كلثوم عندما أنشأت «تختا موسيقيا» للمرة الأولى فى شهر نوفمبر 1926 كان يتكون من محمد العقاد «قانون» ومحمد القصبجى «عود» وسامى شوا «كمنجة» ومحمود رحمى «رق»، كذلك فإن الكتاب يقول بأن الناس كانوا فى القرى والأرياف يطلقون على الطفلة والشابة «السيدة أم كلثوم» فلما جاءت إلى القاهرة صار اسمها «الآنسة أم كلثوم».
الكتاب حافل بالحكايات والنوادر، وربما الجزء المتعلق بـ«المقالات» هو أكثر الوثائق دعوة للتأمل، فالأسلوب والمنطقية فى الكتابة وتتبع الفكرة والبرهنة لها شىء تحسد عليه أم كلثوم، هى لم تكتب من منطلق الفنانة التى تكتب مقالة صحفية وقت فراغها، لكنها قامت بفعل الكتابة بإخلاص تام فى مخاطبة القارئ، ومن وجهة نظرى فإن هذا يعكس جزءًا مهمًا من شخصية أم كلثوم، فهى لا تراهن أبدًا على رصيدها عند الناس، بل إن كل ما تفعله متقن ويستحق التعب كأنها ستقدم نفسها للجمهور للمرة الأولى.
ويظل محمد شعير صانع المفاجآت الجميلة فى الصحافة الثقافية، بالطبع دوره يتجاوز البحث والكشف والتنقيب إلى الإدراك والرؤية وإعادة التشكيل، ونظل نحن فى انتظار جديده كى نكتشف أنفسنا من جديد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة