تابعنا خلال الأيام الأخيرة ظهورا متفرقا لعدد من السياسيين على الفضائيات وفى برامج التوك شو، وطرحت بعض البرامج أسئلة عن سبب تراجع الأحزاب، فيما ظهر معارضون من أعضاء حركات وتكتلات أصدرت بيانات مؤخرا وعادت للظهور بعد غياب.. وربما تكون مناسبة لمناقشة هذا الأمر بعيدا عن الاستقطاب.
هناك مؤشرات إيجابية لظهور وجهات نظر السياسيين بالإعلام، وعدم التهجم على كل من يختلف برأيه.. وأهمية إتاحة المجال للسياسيين للظهور والتعبير عن آرائهم ومنح المختلفين حقوق الرد والتفنيد، ومن ميزات الظهور الدائم لأصحاب الآراء السياسية أنه يعطى الفرصة لحوارات جادة ويقلل من الاحتقان، بل إنه يسهم بطريق غير مباشر فى توضيح وجهات النظر الرسمية، من خلال التحاور مع المختلفين، لأن الاستبعاد يضاعف من الاحتقان، ويسهل تعليق الفشل على شماعات أخرى.
هناك سؤال عما إذا كانت الدولة هى المسؤولة عن ضعف الأحزاب أم أن السياسيين هم السبب، أم أنها مسؤولية مشتركة.. وأيضا سؤال عن السبب الذى يجعل هذه الحركات تختفى لتظهر فقط فى مواسم الانتخابات، وغالبا تعلن المقاطعة وتنصرف، وتتصور أنها تحرج الدولة بالخارج، بينما تجارب المقاطعة جعلت الأحزاب قبل وبعد يناير غير قادرة على امتلاك خبرات انتخابية للمنافسة.
الإخوان ظلوا يشاركون، ونجحوا فى التهام البرلمان بسبب ارتباك الأحزاب.
الإخوان دائما كانوا يرفضون المقاطعة ويخوضون أى انتخابات، وتكونت لديهم خبرات تراكمية، بينما ظلت التيارات الأخرى عند حدود النظرى والبيانات والمقاطعة، ولهذا كان للإخوان 88 نائبا، بينما لم تنجح المعارضة فى الحصول على 8 مقاعد بحد أقصى، وغالبا ما كانت المقاطعة حلا سهلا لأحزاب لا تمتلك إمكانات، وكان قرار المقاطعة غالبا ما يتخذ من أعلى، ومن دون الرجوع للقواعد، التى انصرفت بسبب تجاهلها من القيادات العليا.. وكانت الأحزاب تحصل على دعم مالى من مجلس الشورى، وبعض الأحزاب الصغيرة خرجت فقط للحصول على الدعم المالى المخصص.. اختفى الحزب الوطنى ولم تملأ الأحزاب فراغًا.
هناك أربع تجارب سياسية عرفتها مصر كان الاتحاد الاشتراكى ثم المنابر فى عهد الرئيس السادات، والأحزاب مع الحزب الوطنى ومبارك، وبعد 25 يناير تكشفت حالة الضعف، وبعض التيارات التى أعلنت نفسها وكلاء للثورة قاطعوا وهو ما سهل للإخوان انتزاع الأغلبية فى مرحلة مرتبكة، بينما ظلت الأحزاب فى حالة تخبط، ولعل من ينتقدون تشكيلة مجلس النواب الحالية عليهم مراجعة مجلس الشعب بعد يناير، الذى كان يضم نواب الأذان والصراخ والشتائم وغياب التنسيق بين يسارى وليبرالى أو مدنى، الأمر الذى حولهم إلى خليط عشوائى.
الممارسة السياسية بعد يناير كانت كاشفة عن أزمة فى بنيان الحياة السياسية، لا تتعلق بالمعارضة فقط، لكن بالأحزاب والحركات السياسية عموما.. اختفى الحزب الوطنى، ولا تزال كوادره هى الأقدر على الممارسة، وهناك فرق بين الطرح النظرى والبيانات على مواقع التواصل، وبين عرض وجهة نظر متماسكة يمكن التعويل عليها.. والدليل أن من يدعون لمقاطعة الانتخابات الرئاسية، قاطعوا الانتخابات البرلمانية، ولم تؤثر تحركاتهم بشكل مباشر.
ومن السهل على أى حركات سياسية أن تكتفى بإلقاء اللوم على آخرين فى المسؤولية عن ضعفها، لكن هناك حاجة لأن تحاول الأحزاب والتيارات السياسية قراءة الماضى القريب أو البعيد لتعترف بوجود عيب فى نشأة وتكوين الأحزاب يجعلها تظهر فقط بشكل موسمى، وتكتفى بالبيانات والمواقف الجافة وبالرغم من وجود أكثر من 100 حزب سياسى فإنها تختفى لتظهر حركات وتجمعات، مستقلة تفضل التغريد فرديا، عن طريق البيانات والمؤتمرات الصحفية، التى يتم الإعلان فيها عن رفض مع الانصراف.. ودخلت الأحزاب فى صراعات على المناصب والزعامة انتهت بها فى الثلاجة.
انتقلت السياسة إلى مواقع التواصل الاجتماعى، وهى ليست سياسة ولكن «كلام فى السياسة»، والاعتراف هنا ليس بضعف المعارضة فقط، لكنه ينسحب على التيارات السياسية عموما، بما فيها حتى الأحزاب التى تزعم تأييدها للدولة وتعجز عن تقديم أداء مقنع يقدم بشكل معلوماتى وعلمى ما تحقق، وحجم التحديات والإنجازات.. بينما التحاور من خلال وجهات نظر مختلفة يسهل للرأى العام التعرف على ما يجرى.
لقد ظهرت بعض النكات عن ضرورة أن تنتج الدولة أحزابًا وهو أمر يكشف وجود فراغ يحتاج إلى أن تملأه السياسة، وليس فقط الكلام، هناك حاجة لتوسيع المجال العام، وأيضا على السياسيين معارضين ومؤيدين أن يبدأوا ممارسة سياسية تتجاوز رد الفعل.