من زاوية أخرى للصورة تبدو ملامح واضحة لعلاقة وطيدة تربط بين أهل النخبة فى مصر وإعلانات السمن التى ملأت شاشات التليفزيون فى منتصف التسعينيات وتطورت وانتشرت بنفس طريقة تطور النخبة المصرية.
بدأت إعلانات السمن معتمدة على تصدير فكرة السمن البلدى الطبيعى، ثم انتهت إلى البهرجة والفتيات الراقصة، مثلما حال النخبة المصرية كانت تتصدر المشهد بأفكار لصالح البلد، ثم انتهى بها الحال إلى تصريحات «البهرجة» وتقديم الرقص على المنتج.
فى الإعلان الشهير، كان الطبيب يسأل: سمنك فى الأكل كتير؟
ترد «فتاة الإعلان»: لأ
الطبيب: ولا قليل؟
المريضة «فتاة الإعلان»: برده لأ.
الطبيب: قومى جربى «النخلتين» الحب يرجع فى أكلتين.
لم يكن الإعلان الرمضانى الشهير سوى صيغة مختلفة لإقرار حقيقة المثل الشعبى القائل بأن أقصر طريق إلى قلب الرجل معدته.
طيب وماعلاقة ذلك بالنخبة السياسية؟ أكمل معى قراءة مايلى:
• •
النخبة: هل تعرف ما هى الممارسات الديمقراطية؟
المواطن: لأ.
النخبة: هل تذهب إلى المشاركة فى الانتخابات والاستفتاءات؟
المواطن: لأ.
النخبة: قوم جرب المشاركة.. أقصر طريق إلى الديمقراطية ينتهى بالمشاركة الفاعلة وليس إفيهات وانتقادات مقاعد البدلاء.
الحوار السابق ليس تخيليا، ولا يمكنك أن تعتبره مجرد محاكاة لإعلان شهير، بل هو أصل العقدة الدرامية للوضع المصرى القائم على نخبة وقوى سياسية، لا تكل ولا تمل من دعوة البسطاء للمشاركة فى الحياة السياسية، وحينما يتقدم البسطاء خطوة للأمام، ويطرقون باب المشاركة فى أى عملية سياسية، لا تأتى تفاصيلها على هوى النخبة أو القوى السياسية أو بعض النشطاء، تتبخر كل النصائح الخاصة بالممارسة الديمقراطية وحرية الرأى والتعبير، ويتحول البسطاء إلى مادة للسخرية والشفقة، ثم إلى شماعات يستخدمها الخاسرون لتبرير ضعف موقفهم.
• •
فى اللغة الفصحى يقولون «المبالغة»، واللفظة هنا «أشيك» من أن تستخدم فى وصف الوضع الهزلى الذى يصاحب أداء الأحزاب السياسية وتيارات النشطاء فى بعض القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك ينصح باستخدام المفردة العامية «الأفورة»، لكى تصف حال القوى السياسية والحزبية وهى تشتبك مع الواقع السياسى والاقتصادى المصرى، انتقادات وصراخ بالجملة دون تقديم حلول، نصائح وتوجيهات وتنظيرات بلا توقف، الكل يسخر وينصب نفسه مدرسا سياسيا ومناضلا ومحتكرا للحقيقة وشعارات الحريات والبناء والمستقبل دون أن نرى أحدهم وقد شمر عن ساعديه لمساعدة الدولة المصرية.
يصرخ النشطاء والمعارضون من حال السياحة وعدم القدرة على الترويج لها، وحينما تأتى زيارة النجم ميسى أو ويل سميث لا تجد منهم سوى السخرية، وبالمثل يصرخون من الأوضاع الاقتصادية والدولار، وحينما تطلب منهم تحليلا أو نصيحة لا تجد سوى ابتسامة يعقبها رسالة مسجلة: «هو احنا اللى بنحكم؟».
تضع أمام النشطاء ومن يلقبون أنفسهم بالمعارضة المصرية خريطة المشروعات القومية وتمد يدك فى أرشيف ذكرياتهم مستخلصا تصريحات ومقالات لهم ولرموز المعارضة كانوا من قبل يتحدثون عن مثل تلك المشروعات بأنها طوق نجاة مصر، فلا تجد منهم سوى خرس ومرواغة وسخرية، لمجرد أن من دشن المشروع وأنجزه ليس على هواهم.
تبدو المسألة فى عرف هؤلاء النشطاء خصومة شخصية وتصفية مصالح على حساب الوطن ذاته، وتتضح الصورة بأن غايتهم فى السلطة لا خدمة هذا الوطن، ويبدو السؤال الأهم: كيف تطلب قوى سياسية أو أحزب سياسة السلطة والحكم وهى لم تمهد أرضها للحصول على رضا شعبى لا يأتى إلا بالمشاركة الفعالة لحل مشاكل الوطن؟ كيف لايخجلون وهم يصدرون جهل المواطن المصرى كذريعة لفشلهم بدلا من أن يعترفوا بحقيقة فشلهم فى المشاركة وفى تجهيز كوادر قادرة على أن تحقق لهم الانتشار الشعبى الكافى.
• •
المجتمع المصرى انقسم إلى 3 قطع.. الأولى: جسدها هؤلاء المبتذلون الذين بلغوا أقصى حدود «الأفورة» فى أن كل شىء تمام والنشطاء والقوى السياسية تمام، والمشكلة فى الشعب الذى لم يتعلم الديمقراطية بعد، والقطعة الثانية: جسدها الإخوان بأكاذيبهم وتشكيكهم ونشرهم للإحباط والسخرية من قدرة المواطن المصرى على الإنتاج أو التقدم، وإطلاق الشائعات والأكاذيب وتزوير الحقائق لتشويه صورة مستقبل مصر، أما القطعة الثالثة فيجسدها بعض من النشطاء والنخبة المثقفة الذين اشتهروا بين الناس بدعوتهم للديمقراطية، وقداسة حرية الرأى والتعبير، ثم تم ضبطهم متلبسين بالسخرية من المواطنين حينما يخالفونهم فى الرأى، كأن يخبرك أحدهم بعد سنوات من الحديث عن فوائد المشاركة السياسية بأن المقاطعة هى الحل.
تقضى الحركات السياسية ومعها الحقوقيون والنشطاء وقتها على دكة المشاهدة أو عبر صفحات فيس بوك وحسابات تويتر تسخر من كل شىء وتشكك فى كل شىء وتشكو من كل شىء، وتردد نغمة الخائبين الشهيرة: المواطن هو اللى عاوز كده، المواطن فقير وجاهل ولا يقدر قيمة الديمقراطية، دون أن يعلموا أن العزف على هذه النغمة سيتبعه سؤال ولو بعد حين، عن عمرك السياسى فيما أفنيته، إن كنت قد فشلت فى التأثير على البسطاء أو تعليمهم أو التواصل معهم؟
• •
السؤال الذى سيبقى بعد أن تنتهى حفلة السخرية من البسطاء هو: حضرتك راجل ليبرالى وديمقراطى وحاجات كتير فوق بعض، ولا تشعر بالرضا عن ممارسات الدولة الأخيرة، هل يمكن أن تخبرنا: لماذا تستبدل هجومك على الأحزاب الفاشلة والضعيفة بالسخرية من الناس التى تجعل منها شماعة؟ لماذا تسخر من الناس وتصفهم بالجهل وتجعلهم عبيدا لمجرد أنهم يخالفونك الرأى؟ أين ذهب كل كلامك عن الحرية وتقبل الآخر؟ ألا ترى أن ما تمارسه تجاه الناس فى الشوارع هو التجسيد الحقيقى لمعنى احتقار الآخر واحتكار الحقيقة والقمع الفكرى فى أوضح صوره؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة