متألمًا تابعت تصريحات الكثير من الشعراء حول مكانة الشعر فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وفى الحقيقة أنا لا أملك ما يجعلنى أتوجه باللوم إلى الدكتور «هيثم الحاج على» على هذه المكانة المتردية للشعر لا فى معرض الكتاب ولا فى الحياة، فالمسألة بالنسبة لى أكبر من هذا كله، فالشعر الآن لا يعانى من الاحتضار فحسب، وإنما يعانى من «سكرات الموت»، بعد أن هجره الجمهور وانحدرت الذائقة وأصبح غريبا بعد أن مات معظم الكبار، ولهذا يجب علينا أن نعيد زراعة الشِعر- بكسر الشين- فى وجداننا، ولهذا أعيد طرح هذه المبادرة على الفنانة إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة.
اقتراحى يتلخص فى مبادرة «بسيطة»، لكنها تجسد أحد معانى «النزول إلى الناس» بشكل واقعى، وفى الحقيقة فإننى لا أجد ما هو أسمى من «الشعر»، لنعول عليه فى تهذيب وجدان الناس وزراعة المعانى النبيلة فى قلوبهم، فنحن نمر يوميا على عشرات الأسوار، التى يستغلها البعض بشكل مدمر، فماذا لو استفدنا من هذه الأسوار على الوجه الأمثل، وحولناها إلى ديوان شعر مفتوح بأن نكتب على كل سور بيت شعر أو جزء من قصيدة بخط حسن وتصميم راق لنطهر به العين ونعمر به الوجدان؟
وليكن اسم هذه المبادرة «الشعر فى الشارع» على أن تختار لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة ألف بيت شعر عربى أو أجنبى تسهم فى تهذيب وجدان الناس، وتربت على أرواحهم القلقة، ليتم كتابتها على الحوائط والأسوار فى الشوارع والميادين، وتخيل معى الأثر الروحى، الذى يتركه بيت أمل دنقل «أحس حيال عينيك.. بشىء داخلى يبكى»، أو بيت الأبنودى «وتعبت أقرا اليفط بحثا عن العنوان وتعبت أقرا الوشوش بحثا عن الإنسان» أو بيت صلاح جاهين «على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء.. أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء»، أو بيت محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، مقارنة بالأثر الذى تتركه إعلانات الدروس الخصوصية لـ«إمبراطور الفيزياء، ووحش الكمياء، وضفدع الأحياء».
تخيل معى شكل شوارعنا وهى مزينة بألف بيت شعر مختارة بعناية، بدلا من تركها للخرابات ومشوهى الصفاء، تخيل ابنك وهو يقرأ بيت شعر «ليه تهدمونى وأنا اللى لعزكم بانى.. أنا اللى فوق جسمكم قطنى وكتانى»، ويعرف أن من كتبه هو بيرم التونسى، فيبحث عن أشعاره الأخرى ليقرأها ويستمتع بها، أو أن يقرأ «أُعطيكَ ما أعطتنىَ الدنيا من التجريب والمهارة.. لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكارة»، فيعرف أن صاحب هذا البيت هو صلاح عبدالصبور، فيقرأ شعره ومسرحه ومقالاته وتأملاته، تخيل معى كم الركام، الذى سنزيله من فوق تاريخنا، تخيل معى كم قصيدة ستتحول إلى خبز يومى، تخيل معى هذا الجمال المقترح، وأرجوك ساعدنى فى أن يصبح واقعًا.