لم يرتبط الإعلام المصرى بالسياسة بقدر هذا الاندماج المقيت الذى صاغته ثورة 25 يناير عام 2011، فقبل هذا التاريخ كانت الاشتباكات بين الإعلام والسياسة تحافظ لكل فريق على صفته وشخصيته، «فهذا إعلامى» و«هذا سياسى»، واستمتع الإعلام قبل يناير وخلال السنوات الخمس الأخيرة فى حكم مبارك بلعب دور «الولد الشقى» بين السلطة والناس، يشتبك، ويناور، وينتقد، ويصل به الأمر إلى المحاكمة، لكنه فى النهاية يعود إلى دوره مُدَللاً، وبلا ضريبة قاسية من سجن أو تشريد أو تعويض أو إبعاد، كان الإعلام يعرف دوره جيدًا، وكانت لعبة الولد الشقى تحمى تهوره أحيانا، وتجاوزه للخطوط الحمراء فى أحيان أخرى، وكان السياسيون آنذاك يستمتعون بهذا الدور أيضا، إذ يتركون هامش الألعاب الشقية مفتوحا، ثم إذا هم أظهروا العين الحمراء للشقاوة الإعلامية، عاد الإعلام إلى مقعده مؤدبا مهذبا، وسمحت هذه المناورات بأن تظهر السياسيين آنذاك بأنهم أهل تسامح، وتظهر الإعلاميين وقتها بأن شقاوتهم لا تتجاوز الذوات العليا فى إدارة الدولة.
سقطت لعبة «الولد الشقى والسلطة المتسامحة» مع تطورات يناير، إذ صار الإعلاميون سياسيين يقودون الجماهير إلى الميدان، وينشطون فى العمل الحزبى، ويشكلون الحكومات، ويختارون الوزارات على الهواء مباشرة، ثم صار السياسيون أنفسهم إعلاميين، فولدت عشرات البرامج التى أعدها ملاك الإعلام خصيصًا ليظهر فيها نشطاء الميادين والنافذون على شبكات التواصل الاجتماعى، صار الإعلام والسياسة وحدة واحدة، ولم تعد الجماهير قادرة على التمييز بين ما هو إعلامى وما هو سياسى فى المحتوى، واختلطت توصيفات الفريقين بين الإعلام والسياسة، وساعدت ثورة يونيو فى تأكيد هذا التوجه بعد أن تصور عدد كبير من الإعلاميين أنهم هم من صنعوا هذه الثورة، وهم من حركوا الجماهير، وهم من أسقطوا حكم الإخوان، وتناسى بعض الإعلام الدور الذى لعبته حركات الشباب الوليدة فى الشارع، والدور الوطنى الذى لعبته مؤسسات الدولة فى تغليب حكم الناس على حكم الإخوان.
الآن يبدو الإعلام فى حالة شتات أخرى، فهو من جهة لم يستطع أن ينسى تجربة الولد الشقى، ولم يستطع أن يتخلى عن الدور السياسى الذى مارسه خلال السنوات السبع الماضية، وفى الوقت نفسه صارت الدولة أكثر قوة مما كانت عليه من قبل، دولة لا تعتمد فى تحسين صورتها على نظرية «الولد الشقى والسلطة المتسامحة»، كما أنها دولة لا ترى أن السياسة والإعلام يجب أن يجتمعا فى شخص واحد يقف أمام الميكروفون ليطيح بحكومات أو يؤجج مشاعر الناس، سواء تأييدا أو معارضة، الدولة ترى أن الإعلام يجب أن يكون «إعلام»، وأن السياسة يجب أن تكون «سياسة»، وإذا كان الإعلام من حقه أن ينتقد وأن يشتبك وأن يهاجم أحيانا فإن هذا الدور يجب أن يبقى ملتزما بالمعايير المهنية للإعلام وليس بالمعايير التوجيهية للسياسة.
مشكلتنا هنا أن الإعلام يقيس مستوى حرياته بقدرته على أن يمارس الأدوار التى أتقنها فى الماضى، لا يعرف للحرية معنى دون أن يلعب دور الولد الشقى، ودون أن يمارس مهام التوجيه والتعبئة، ولذلك تتحدد كل معايير الجودة الإعلامية والشطارة والشعبية بحجم الدور الذى يلعبه الإعلاميون فى هذا الهامش بين الشقاوة والمناورة أو السياسة والتعبئة العامة.
هنا جوهر المشكلة، إذ إن الإعلام، كل الإعلام، يعتبر أن العلاقة مع السياسة تأييدا أو اشتباكا هى المعيار الأساسى للنمو أو التطوير أو الشعبية أو المصداقية، ولذلك تدور كل المحطات التليفزيونية فى هذا الفلك الواهم، لتعجز عن تقديم محتوى برامجى يتمرد على هذه المفاهيم الضيقة، نحن مازلنا أسرى لبرامج الـ«توك شو»، وما زال بعض مقدمى البرامج، حتى برامج الطبخ والمنوعات، يسعون للاشتباك مع دوائر السياسة، وجعلوا من أنفسهم أسرى هذه المفاهيم الماضوية، فلم يحدث التطوير المنشود فى المحطات التليفزيونية المصرية الفضائية منها والأرضية.
نحن نعجز عن التطوير فى المحتوى التليفزيونى، لأننا مازلنا أسرى هذه النظريات القديمة، ومازلنا نعتقد أنه بدون الشقاوات أو حالات الحشد والتوجيه فإن الإعلامى لا قيمة له، والحريات لا معنى لها، السياسة طاغية حتى مع تغير طبيعة الملكية فى عدد من المحطات، السياسة طاغية على كل شىء، حتى لهؤلاء الذين يقولون عن أنفسهم إنهم لا يقدمون محتوى سياسيا، أو يسمون ببرامجهم عن السياسة، يبقى أن تحليل المحتوى يؤكد أنهم لم ينفصلوا حتى الآن عن نظريات الماضى.
والنتيجة أننا لم نقدم جديدا، لا على مستوى المحتوى ولا على مستوى مقدمى المحتوى، ولا على مستوى النظريات التى يقدم بها صناع الميديا محتواهم الإعلامى.
كل شىء أسير للسياسة، وكل التطور والتفكير مرتبط بالسياسة، وكل فورمات البرامج تستهدف التأثير السياسى، على عكس كل الإعلام المتطور فى أى بقعة فى العالم، الإعلام هو الإعلام، صناعة المعلومات والترفيه والتسلية والمتعة والفنون، إذا آمنا بأن هذه هى أهداف الإعلام قد نستطيع العبور بمحطاتنا الفضائية على ساحة أوسع من التأثير والربح، أما إذا بقينا أسرى للإعلام السياسى، تأييدا أو معارضة، فإننا قد نخسر الإعلام والسياسة معا.
مصر من وراء القصد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة