ما أسهل أن تلغى عدوك فى عقلك، وتحيا وكأنه غير موجود، وبالتالى فلن تفعل شيئًا، وما أسهل أن تقرر مقاطعة ما لا تحب، فتحيا وأنت مقتنع أن ما لا تحب ليس له وجود، ولكن عدوك موجود، وما لا تحب أو ترغب سيظل له وجود رغم مقاطعتك، وقديمًا قالوا «اعرف عدوك»، ولتعرف عدوك لابد أن تقرأ ما يكتب، وتعرف ما ينتج، وتشاهد ما يسفر عنه إبداعه، وتتعرف على عاداته فى الطعام والملبس، وكل مناحى الحياة.
أنا وأنت وجميعنا منذ أن أدركنا الحياة على اختلاف أعمارنا، سمعنا ورددنا كلمة مقاطعة إسرائيل، فهى العدو ومازالت، ولا أظن أنها أبدًا ستكون صديقًا نأمن جانبه، حتى لو تصافح كل من يحكمنا معهم، وتبادلوا الرسائل والسفراء، ولكن يظل السؤال مطروحًا عن ماهية المقاطعة، وكيف تكون، وما نتائجها حتى الآن، وعشرات أخرى من الأسئلة التى يجب أن نسأل أنفسنا ويسألها الخبراء، ونتناقش فيها، ونتعرف على نتائجها كما هى، لا كما نتمنى، فربما نحتاج لتغيير استراتيجة المقاطعة وتفاصيلها التى تاهت ولم يعد لها من وجود إلا منع زيارة القدس وبقية الأرض المحتلة، بزعم أن العدو هو الذى يمنح تأشيرة الدخول.
كانت تلك مقدمة لابد من طرحها قبل أن أتحدث عن فيلم «القضية 23» لمخرجه اللبنانى زياد دويرى، والذى يُعرض حاليًا فى القاهرة، رغم دعوات المقاطعة التى انطلقت على مواقع التواصل الاجتماعى للفيلم، ولدار عرض زاوية التى تعرضه.
وكالعادة انطلق الأمر بسبب أن المخرج اللبنانى كان قد قدّم عام 2013 فيلم «الصدمة» الذى صوره فى إسرائيل، واستعان فيه بطاقم إسرائيلى فى العمل، ولكن حين انتشرت الدعوة لم يعد أحد مهتمًا بأصل سبب المقاطعة، فصار ما يتردد أن فيلم «القضية 23» يروج للتطبيع، وهنا مكمن الخطر دائمًا فى ثقافتنا السمعية، التى تدفعنا كجموع لفعل دون التحقق من حقيقته.
فيلم «القضية» يحكى عن لبنانى مسيحى مارونى، وآخر فلسطينى مسلم، تجمعهما الظروف فى مواجهة تبدأ بـ«خناقة» عادية، لتتحول إلى قضية تتداولها المحاكم، وحكاية صراع وجروح لم تلتئم رغم مرور سنوات وسنوات على نهاية الحرب الأهلية التى شاركت فيها فصائل فلسطينية ضد المسيحيين فى لبنان.. كل تفاصيل الفيلم من موسيقى وأداء الممثلين عادل كرم، وريتا حايك، وكامل الباشا، والتصوير، والسيناريو المحكم، والحوار الدقيق الذى لم يغفل لحظة عن أن يدفعنا للتفكير، والإخراج، كلها بالتأكيد كانت أسلحة الفيلم للوصول للترشح فى القائمة النهاية للأوسكار.
ولكن ربما أهم من الأوسكار، والمقاطعة، ومواقع التواصل الاجتماعى، وأى جدل يدفعنا إليه الفيلم، هو أن المشاهد يخرج بعد نهاية الفيلم مختلفًا عما كان قبله، فجملة قيلت على لسان إحدى الشخصيات، هى ألا يجب أن يتصور أحد أنه يحتكر المأساة أو الظلم، فالجميع فى الحرب والصراعات يدفعون الثمن، والبسطاء وحدهم من الجانبين هم الذين تبقى الغصة فى قلوبهم.
أنا لم أقاطع الفيلم، وقد يعتبر بعض المتطرفين أن تلك خيانة وتطبيع، وأقر أننى استمتعت به فنيًا وفكريًا، وضد أن نغمض عيوننا عما يقدمه الآخر المختلف معنا، ولا أنكر أن اسم كوهين بين المنتجين كان غصة فى حلقى، ولكن لم ولن يمنعنى كوهين من رؤية الفيلم، لأننى أرفع شعار «اعرف عدوك» كما يجب، لا كما يريد البعض بأسلوب التجاهل، أو بمنطق «عتاب الندل اجتنابه»، فلا زياد دويرى وفيلمه «أندال»، ولا كوهين «ندل»، لكنه فقط عدو علىّ أن أعرفه.