انتشرت صوره على صفحات معظم الصحفيين بموقع التواصل الاجتماعى "فيسبوك ".. يدخل صاحب الصورة قلبك من أول نظرة.. ابتسامة هادئة تحاول أن تخفى حزنا عميقا تبوح به العينان.. ملامح تشبه وجه ابنى، وكلمات تنعى شابا موهوبا قضى عمره القصير معافرا محاولا تحقيق أحلامه البسيطة، ولكنه رحل قبل أن يحقق أبسطها.
" تَعالى نحلّم سوا..الله على الأحلام".. عبارة وضعها رضا غنيم الصحفى الشاب الذى رحل عن عالمنا قبل أن يكمل عامه السابع والعشرين على صفحته بموقع التواصل الاجتماعى فيسبوك،وكأنه يعرف أنه لن ينال من هذه الدنيا سوى الأحلام التى سيرحل دون أن يتحقق أى منها رغم موهبته وكفاءته، وصورة غلاف تحمل أسماء شهداء ألتراس أهلاوى الذين استشهدوا فى مجزرة استاد بورسعيد وكأنه يعرف أن ثمة تشابها بين حياته القصيرة وحياتهم.
لم أعرفه معرفة شخصية ولكن عرفت الكثير من صفاته ومواقفه ومواهبه بعد رحيله من رثاء وحكايات من عرفوه.عرفت كثيرين مثله فى بلاط صاحبة الجلالة ممن طحنتهم قسوتها، رغم عشقهم لها، يعملون فى بلاطها وكأنهم ملح الأرض، تروس عجلتها التى لا تتوقف عن العمل، بينما يحصد خيرها آخرون ربما أقل موهبة وضميرا ولكنهم يمتلكون أدوات أخرى لا يجيدها من هم مثل رضا والحسينى أبو ضيف وغيرهم ممن لا تشتهر أسماؤهم إلا فى كلمات الرثاء بعد الوفاة .
رضا غنيم نموذج لهؤلاء الذين تدهس الحياة أحلامهم، ولكنهم يظلون متمسكين بها حتى الموت يحتضنونها معهم فى الأكفان ويصطحبونها إلى القبور .
جاء من قريته ظهر التمساح التابعة لمركز إيتاى البارود بالبحيرة عود أخضر ، بعد حصوله على الثانوية العامة ، ظن أنه حقق جزءا من أحلامه بتفوقه والتحاقه بكلية الإعلام ، ودعته والدته بالدموع فهو الابن الوحيد الذى أنجبته بعد 15 عاما ، ورغم خوفها هى ووالده الشديد عليه وافقا على تحمل ألم البعد أمام إصرار رضا على تحقيق حلمه.
عاش رضا فى المدينة الجامعية كافح واجتهد وعمل قبل تخرجه فى عدد من الصحف والمواقع ، قابل كثيرين من تجار الأحلام ومصاصى عرق وجهد الشباب الحالمين بفرصة فى بلاط صاحبة الجلالة ، وبعد تخرجه انتقل بين مواقع وصحف عدة ، ظل يعمل لمدة 8 سنوات ، و كان يثبت كفاءته ومواهبه فى كل تجربة التحق بها، ولكن لم يكن له نصيب فى التعيين بإحداها إما بسبب استغلال أصحابها للمواهب الشابة أو لأن لهم اعتبارات أخرى فى التعيين غير الموهبة .
كان رضا صاحب موقف ومبادئ يكتب عن المقهورين والمظلومين والمهمشين، ولا يكتب ما يتنافى مع قناعاته، يحمل أحلام وأفكار جيل ثورة يناير، ويواجه الإحباطات المستمرة بابتسامة .
ومثل آلاف المغتربين الذين يلهثون وراء نداهة الأحلام وتطحنهم قسوة الحياة بعيدا عن الأهل، كان رضا يعيش مع زملائه فى شقة مشتركة، يحاول أن يكيف ظروفه ونفقاته طبقا للمبالغ البسيطة التى يتحصل عليها شاب مثله من العمل الصحفى حتى لا يثقل كاهل والديه ، ولا يتأخر فى مساعدة زملائه الذين التحقوا بعده بالعمل الصحفى .
كان يختلس ساعات بسيطة ليزور أسرته، يروى عطش البعد بحضن أمه الذى لم يشبع منه، ونظرات حب من أبيه الذى يحاول أن يملأ عينيه بوجه ابنه الوحيد استعدادا لفراق سيطول ، لقمة ساخنة من يد أمه يزول معها مرار أيام شقاء فى عشق نداهة الصحافة ، وبعد هذه الهدنة القصيرة يسرع ليعود إلى النداهة من جديد ، تبكى الأم وتتشبث بيديه : "خليك يابنى شوية ماشبعناش منك" ، فيرد :"معلش ياأمى عشان ألحق الشيفت " ، تودعه الأم :"ماتغيبش علينا يارضا" .
يعود رضا لطاحونة العمل الصحفى التى أكلت عمره وصحته حتى أصيب بمرض السكر بعد عام واحد من تخرجه ، ولكنه سرعان ما تعامل مع الصدمة بحالة من الرضا والسخرية .
ظل رضا يعمل ويعافر ويحلم حتى أوشك أن يحقق أول أحلامه بعد تعيينه فى المصرى اليوم ، وتقدمه بأوراقه إلى نقابة الصحفيين، ولكن قبل أن يكتمل هذا الحلم تحالفت غيبوبة سكر والتهاب رئوى مع كل الظروف التى وقفت ضد أحلام رضا البسيطة ليخطفه الموت قبل أن يحقق أول هذه الأحلام .
صدمة مروعة أصابت كل من يعرفه وحتى من لا يعرفونه ، وسمعوا أو قرأوا له أو عنه ، حمل زملاءه جثمانه ملفوفا بأحلامه من القاهرة التى قبضت روحه إلى مدافن أسرته بقرية ظهر التمساح، وكأنهم يدفنون حلما آخر من أحلامهم.
استقبلت والدة رضا ووالده ابنهما الوحيد جثة بلا روح ، ولأول مرة لا يجرى رضا ليشبع من حضن أمه أو يقبل يد أبيه ، لأول مرة لا يوفى بوعده لهما حين ودعهما ليحقق أحلامه ، فعاد قبل أن يحقق أبسطها، حتى عودته الأخيرة هذه المرة أصبحت فراقا للأبد .
تجرى الأم وراء نعشه منادية : " استنى يارضا مستعجل ليه يابنى ، ماتفقناش على كدة ياضنايا ، ده أنت غدار صحيح ، كدة تغدر بينا يا رضا ، طيب أقعد معايا النهاردة ، ابنى كان نفسه ياخد كارنيه النقابة وماخدهوش ، استنى يا شاطر يا أبومخ نضيف" .
ينزل رضا إلى قبره محمولا على كتف أبيه وأصدقائه وأهل قريته ، يغلقون القبر عليه وعلى أحلامه البسيطة، وبعدها تنطلق حملات لتنادى بمنحه عضوية النقابة ويصدر نقيب الصحفيين قرارا بمنحه العضوية الشرفية ، قرار تأخر كثيرا ولن يفرح به رضا الذى ستتحقق أحلامه فى عالم أفضل وأكثر رحمة ، ولكن ربما تسعده قرارات أخرى تنصف الحالمين والموهوبين المظلومين اللاهثين وراء الأحلام البسيطة قبل أن يدركهم الموت مثله .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة