استقر مؤرخو الفن المصرى الأوائل على انتخاب عام 1908، وهو عام تأسيس مدرسة الفنون الجميلة المصرية، بِوَصفِه فاتحة التأريخ للفن المصرى الحديث، وهو انتخابٌ سرعان ما استقر فى الوعى العام، وبات يُنظَرُ إليه، مِن قِبَل المتخصصين وغير المتخصصين، باعتبارِه مُنطَلَقاً تأسيسياً لعلاقة المصريين بالفنون البصرية.
وعلى مُحيط دائرةٍ زمنيةٍ ضيقة، لا يتجاوز نطاقُها عشرين عاماً، أخذ هؤلاء المؤرخون الأوائل، ومَن أتى فى أعقابِهِم من مؤرخين ونقاد وباحثين وأكاديميين، يشيرون مِن آنٍ لآخر إلى مناسباتٍ فنيةٍ بِعَينِها، على اعتبار أنها تمثل إرهاصاتٍ أوّليّة لبزوغ حركة فنية على أرض مصر؛ وهو ما نراه يتكرر فى مقالاتٍ وكتبٍ تأسيسية، كُتِبَت بأقلام "كمال الملاخ" و"صدقى الجباخنجى" و"رشدى إسكندر" و"صبحى الشارونى"، وأقلام آخرين مِمَّن عاصروهم أو جاءوا على أعقابِهِم من الكاتبين فى شئون الفن المصرى الحديث.
وقد رأى هؤلاء المؤرخون أن أهم تلك المناسبات تتمثل فى بضعة معارض، للفنانين المستشرقين الذين استوطنوا مصر فى أواخر القرن التاسع عشر، افتُتِح أوَّلُها فى أكتوبر من عام 1891، بصالة الأوبرا الخديوية، بحضور الخديوى يصحبه كبار رجال الدولة، واعتُبِرَ هذا المعرض بمنزلة أول معرض فنى تشهده مصر، بمفهوم المعارض الفنية الحديثة.
وإضافة لهذه المعارض الأجنبية، ظل عددٌ مِن نقاد الفن المصرى ومؤرخوه يشيرون إلى المعرض المقام فى يناير سنة 1911 بنادى "الأتوموبيل" بشارع المدابغ (شريف حالياً)، لأول دفعة لطلاب مدرسة الفنون الجميلة، قُبَيل تخرجهم مباشرة، بِوَصْفِه أول معرض يقام لفنانين مصريين على أرض مصر.
على هذا النحو استقرت نظرة مؤرخى الفن المصرى لمرحلة بزوغ الوعى الجمالى فى مصر؛ إذ رأوها مرحلةً تتكون على أثر شوارد من المحاولات الأجنبية، يتبعها تأسيسٌ أكاديمى مفاجئٌ على النَسَق الغربي. ونستطيع أن نلمس مدى اليقين الذى استقر فى خواطر بعض أبرز مؤرخى الفن المصرى، بشأن هذه التصور التاريخي؛ حين نرى الناقد المؤرخ "إيميه آزار" فى كتابه المهم "التصوير الحديث فى مصر حتى عام 1961"، يقرر بأسلوب جازم أن المعارض (الصالونات) الفنية الأجنبية التى نظمها "المنتدى الفني" فى مصر خلال الأعوام 1894 و95 و96 و97، قد كانت ".. هى الأحداث الفنية المعروفة فى تلك الحقبة"!
وقد تحولت (وجهة النظر) التاريخية هذه فيما بعد إلى وجهة نظر (مؤسَّسِيّة)، سرعان ما اكتسبت صفة (رسمية)؛ حين تَبَنَّتها إحدى أهم مؤسسات الثقافة المصرية، مما أدى إلى تمريرها باعتبارها (حقيقة تاريخية). ففى عام 1982، أطلق "المجلس الأعلى للثقافة" مسابقةً للأبحاث النقدية التشكيلية، تحت عنوان "فجر التصوير المصرى الحديث، من 1900 - 1945". هكذا كان رأى القائمين على أمر الجائزة؛ أن فجر التصوير المصرى لم يبزُغ قبل عام 1900، وأنه امتد لمدة خمسةٍ وأربعين عاماً!
وفى هذا السياق التأريخى، دأب أولئك المؤرخون على استدعاء ثورة 1919، باعتبارها شرارة بعث الروح القومية، التى تجسدت فى أعمال الرواد الأوائل مِن فنانى مصر. وقد ظهر - فى كافة الكتابات التى تعرضت لبحث مرحلة بزوغ الفن المصرى الحديث – توافُقٌ تام على مركزية ثورة 1919، كمحرك أساسى لانطلاقة الحركة الفنية المصرية، ورافد لإلهام أوائل فنانيها. وقد ظلت هذه الرؤية مهيمنة على أفكار مؤرخى الفن المصرى ونقادِه، لتُعبّر عن مضمونها كلما استجدّت مناسبة الحديث عن علاقة الفن بالحراك السياسى المصرى فى مطلع القرن العشرين.
غير أننا حين نراجع تاريخ الحركة الوطنية المصرية، سرعان ما نفاجأ بواقعةٍ تاريخيةٍ على درجةٍ كبيرة من الأهمية، سَبَقَت اندلاع شرارة ثورة 1919 بحوالى رُبع قرن، ولَعِب فيها الفن الجميل دوراً محورياً، كان له أثرٌ كبير فى الدعاية لقضية الاستقلال المصرى على المستوى الدولى، وفى إثارة الاهتمام العالمى بمفهوم (الأُمّة) المصرية. ويشتد وَقْع المفاجأة؛ حين نتبين أن بطل هذه الواقعة هو الزعيم الوطنى "مصطفى كامل" بِنَفسِه.
والمدهش فى الأمر حقّاً أننا لا نقَعُ على أدنى إشارة لهذه الواقعة على الإطلاق، فى أى من كتابات المؤرخين والنقاد المشار إليهم سَلَفاً، بِرَغم مِحوَرية الفن فى تحريك بَواعِثها وإسباغ طابع الخصوصية عليها – كما سيَرِد بالتفصيل – وكأن الجميع لم يبلُغهم نبأُ وقوعِها! برغم إثباتها فى مَصادر تاريخية بالغة الأهمية.
ومِن أوائل المَصادر التى أورَدَت تلك الواقعة المهمة، عدد النسخة الفرنسية من جريدة "أبو نضّارة"، الصادرة بتاريخ 10 يونيو 1895؛ ضِمنَ خبرٍ يمكن ترجمتُه بالعربية على النحو التالى: "استُقبِل صباح أمس الحقوقى المصرى "مصطفى كامل"، مِن قِبَل السيد "بيير"، أمين مجلس النواب الفرنسى، وسَلَّمَه لوحةً تمثل الشعب المصرى وهو يطلب المساعدة من فرنسا مُحَرِّرة الأُمَم. وفى الوقت نفسِه، أرسل السيد "مصطفى كامل" رسالةً إلى السيد "بريسون" تنتهى بهذا الهتاف: عاشت فرنسا محررة الأمم! وقد كُتِب فى تعليقٍ شارحٍ داخل جدول باللوحة: نداء لمساعدة الشعب المصرى، إلى فرنسا محررة الأمم. وتمثل الصورة مجموعة مكونة من كافة الطبقات الاجتماعية المصرية، مع مندوبهم "مصطفى كامل"، إضافة للعديد من الشخصيات الرمزية؛ كفرنسا، ومصر المكبلة بالسلاسل، والقوة الغاشمة، والدول التى أنقذتها فرنسا، والنيل العتيق، وقد ظهر النَصّ التالى داخل خرطوش، باللغتين العربية والفرنسية: أيا فرنسا! يا من رفعتِ الظلم عن شعوبٍ تهتز قلوبُها لذكراكِ، خلّصى مصر، إن مصر بسوء، وحررى النيل، وانشرى الحقيقة فى العالم حتى ترى الخير أمّةٌ تحبُّك!".
على هذا النحو الذى لا يشوبُه لَبس، ولا يَعوزُه برهان، كان اعتمادُ "مصطفى كامل" على الفن التشكيلى أداةً فعالةً لخدمة القضية الوطنية، ووسيلة دعائيةً مؤثرةً فى الترويج لها وفى استقطاب اهتمام المجتمع الدولى بمطالبها التحررية وبحقها فى الاستقلال.
ويتأكد نجاح "مصطفى كامل" فى استثمار هذا السلاح الفنى القوى، حين نرى مدى احتفاء الصحافة العالمية بأمر هذه اللوحة، إذ وَرَدَ ذِكرُها – بالتزامُن مع جريدة "أبو نضّارة" – فى أغلب الصُحُف الغربية المعروفة آنذاك، وبخاصةٍ الفرنسية منها.
ولكى يصل "مصطفى كامل" بتأثير هذه اللوحة الدعائية إلى أقصى حدٍ ممكن، فقد طبع منها بضعة آلاف مِن النُسَخ، وُزِّعَت فى أنحاء دول الغرب، فضلاً عن الأصل المرسوم المُهدى للبرلمان الفرنسى، وعلى الرغم من أن المصادر التى ورَد بها خبر هذا الموضوع لم تتطرق إلى كيفية طباعة هذه الألوف مِن النُسَخ، فإننا نرجح أن يكون الزعيم الشاب قد لجأ إلى إحدى دور الطباعة المتخصصة فى الطباعة الحجرية "الليثوغراف"؛ نظراً لكونِها الطريقة الوحيدة التى تُتيحُ إنتاج هذا العدد مِن النُسَخ الطباعية، مع إمكانية محاكاة السِمات اللونية للأصل المرسوم بدقة.
وكان للضجة التى أثارتها هذه الواقعة، وشهرة اللوحة التى اتخذت منها وسيلةً للدعاية، أثرٌ كبيرٌ فى حياة "مصطفى كامل" نفسِه، تجاوز بكثيرٍ حدود إشهار القضية المصرية على نطاقٍ دولى، إذ كانت هذه الطريقة الفنية المبتكرة - التى لم يعهَدها الغرب طوال تاريخه الاستعمارى فى الشرق – سبباً فى سطوع نجم "مصطفى كامل"، وفى تكريسِه بِصِفَتِه (زعيماً) سياسياً يتحدث بلسان الأمة، لا باعتباره حقوقياً شاباً متحمساً أو خطيباً مُفَوَّهاً.
كان "مصطفى كامل" فى الحادية والعشرين مِن عُمرِه، حين أقدَمَ على هذه الخطوة، وقد انتهى لِتَوِّه مِن نيل شهادتِه الحقوقية فى العام السابق مباشرةً، فإذا بالأنظار تتجه إليه مِن كل صوب، وإذا بالصُحُف العالمية تُرَدِّد اسم هذا الشاب المصرى، الذى جعل من الفن سلاحاً للدفاع عن قضية بلادِه، وفى المقابل، كان هجوم الصُحُف الإنجليزية سبباً فى جذب المزيد من الأنظار صوب هذا الزعيم الشاب، حين تناولت خطوتَه هذه بالتشنيع والتقريع.
وقد أسفر كل ذلك عن تمهيد الطريق أمام "مصطفى كامل"، للتواصُل مع كبار الساسة الغربيين، وهو ما يزال بعدُ فى مقتَبَل شبابِه، فأخذ يطوف عواصم أوروبا، متحدثاً إلى الصحفيين والدبلوماسيين، مبيناً لهم أن مصالح بلادهم تتفق مع تحقيق جلاء إنجلترا عن مصر.
وقد أجمع ثُقاةُ المؤرخين لهذه المرحلة على أهمية الدعم المُستَتِر، الذى بذله الخديوى "عباس حلمى الثانى"، لتعضيد "مصطفى كامل" وتذليل العقبات أمامه؛ إذ كانت سياسة "عباس الثانى" معارضةً تماماً لسياسة الإنجليز، وهو ما جعله يتجه إلى تشجيع النابهين من شباب مصر المناهضين للاحتلال البريطانى.
وتقودنا هذه النقطة تحديداً إلى سؤالٍ واجب الطرح: أليس مِن الغريب أن يتجاهل مؤرخو الفن المصرى هذه الواقعة تماماً، فلا يكون لها ذِكرٌ فى أى مِن مؤلّفاتِهم، ولا لما يرتبط بها مِن خلفيات دعم "عباس حلمى" لـ"مصطفى كامل"، فى الوقت الذى يهتمون فيه بالإلحاح على سرد حرص "عباس حلمى" على افتتاح معارض الأجانب المستشرقين فى مصر، بدءاً مِن عام 1892؟!
وسرعان ما يؤدى بنا هذا السؤال بِدَورِه إلى محاولة فحص احتمالَين وَثيقَى الارتباط به، وهما: هل كان إغفالُ مؤرخى الفن المصرى ذِكر هذه الواقعة فى كتاباتهم إغفالاً مؤسَّساً على تجاهُلٍ مُتَعَمَّد لها؟ أم تُراهُ نتَجَ عن عدم إلمامٍ كافٍ بوقائع سيرة "مصطفى كامل"، وبتفاصيل سياق الحركة الوطنية المصرية خلال نهاية القرن التاسع عشر؟
ربما يتبادر للأذهان، للوهلة الأولى، أن الاحتمال الثانى لا يخلو مِن وجاهة؛ وبخاصةٍ حين نأخذ فى الاعتبار أن أغلب الصُحُف التى تَضَمَّنت خبر الواقعة ووصف اللوحة – بما فيها "أبو نضّارة" – قد نُشِرَت بلُغاتٍ أجنبية عام 1895، أى أنها تسبقُ محاولات مؤرخى الفن المصرى زمنياً بحوالى نِصف قرن، مما يبرر عدم قدرتهم على الاطلاع عليها، وبالتالى الأخذ بما ورَد فيها.
غير أنه لو صَحّ هذا الفرضُ الذى يبدو على شىءٍ مِن الوجاهة، فستظلُّ أمامَنا حقائق تطرح مزيداً مِن علامات الاستفهام؛ إذ لو جاز الأخذ بفكرة تَعَذُّر الاطلاع على تلك الصُحُف الأجنبية القديمة، لَما كان من المستساغ أن نفترض عدم اطّلاع أى مِن مؤرخى الفن المصرى الحديث – وبخاصةٍ الرواد مِنهم – على مصادر عربية مهمة، تَضَمَّنَت ذِكر الواقعة التاريخية، وتفصيل خبر اللوحة الفنية المذكورة – بل وتَضَمَّن بعضُها صوراً على درجةٍ لا بأس بها من الوضوح لهذه اللوحة – وهى مصادر كُتِبَت بأقلام بعض مشاهير الشخصيات، وبعض أبرز المفكرين والمؤرخين المصريين!
ويكفى للتدليل على ما سبق، أن نعلم أن أحد أهم هذه المصادر يتمثل فى السيرة الكاملة لحياة "مصطفى كامل"، التى جمعها شقيقُه "على فهمى كامل"، وصَدَرَت فى عدة مجلدات عام 1908، عَقِب وفاة "مصطفى كامل" بشهورٍ قلائل.
وفى هذا المصدر المهم، يُلقى شقيق "مصطفى كامل" مزيداً من الضوء على هذه الواقعة التاريخية؛ حين يُورِدُ نَصّاً لخطابٍ أرسله له أخوه قبل شهرٍ واحدٍ من إهدائه اللوحة لمجلس النواب الفرنسى، وَرَد فى خاتِمَتِه: "... وإنى أصرح لك بأن صدرك سينشرح عندما تقف على ما سأعمله خدمةً لبلادٍ لا عز لنا إلا بها. فها قد أوصيتُ على صورة سياسية تمثيلية، لأقدمها مع عريضة سياسية لمجلس النواب الفرنساوى، وسأجتهد فى أن يكون الموقعون على هذه العريضة مِن أبناء مصر كثيرين حتى يكون لها فى العالم دَوِى كبير وتأثيرٌ عظيم. وإنى لأرجو منك ألا تذيع هذا النبأ لأننى ممن يتمسكون بقول النبى الكريم "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان". أدامك الله لأخيك المخلص. مصطفى كامل. الأحد 12 مايو 1895".
ويواصل "على فهمى كامل" إلقاء المزيد مِن الضوء على ظروف الواقعة، وعلى تفاصيل تنفيذ اللوحة وطباعة نُسَخِها لتتكشّف لنا مفاجأة أخرى، تتمثل فى أن "مصطفى كامل" هو مَن وضع بِنَفسِه فكرة التصميم العام للوحة، وما تشتمل عليه من رموز وأشكال وعبارات شارحة؛ وهو ما يتضح من المقتطَفات التالية، التى يقول فيها شقيقُه: "وكان المترجَم (بمعنى صاحب الترجمة، أى السيرة) قد أوصى بصُنع كمية وافرة من الصورة التمثيلية السياسية، التى صحت عزيمتُه على رفعها إلى مجلس النواب الفرنسى، فانتهى طبع عدة آلاف منها يوم الاثنين 2 يونيه سنة 1895، وقد جاءت وفق غرضِه الذى رسمه شكلاً وموضوعاً... وفى الساعة العاشرة قبل ظُهر يوم الأربعاء 4 يونيه، أى بعد نَجاز طبع الصورة التمثيلية السياسية بيومين، قصد مع إخوانِه مجلس النواب، مملوئين جميعاً مِن روح الأمل... ورفع الصورة إلى سكرتير المجلس. أما العريضة فقد استلمها منه جناب الرئيس بيده، بعد أن استقبلهم استقبالاً هو آية فى الحفاوة والإجلال..... وقد أرسل المترجَم بعد ذلك نسخة هذه الصورة ونَصّ العريضة الممثلتين لحال مصر السياسية ومطالبها الوطنية إلى كل جريدة من جرائد العالم الأوربى والأمريكى...".
كما يضيف "على فهمى كامل" إشارةً مهمة، توضح أن اللوحة كانت منفذة بالألوان الزيتية، غير أنه يستخدم لوصفها كلمةً بديلة دارجة، هى كلمة (البوية)؛ وهو ما يبرره صدور الكتاب فى الأشهُر الفاصلة بين رحيل "مصطفى كامل" وتأسيس "مدرسة الفنون الجميلة"، قبل أن يصير اصطلاح (ألوان زيتية) اصطلاحاً شائعاً فى التداوُل الجمعى المصرى، وهو ما يتضح من خلال الفقرة التالية "أما الصورة فهى تمثل مصر والاحتلال الإنجليزى، وقد رُسِمَت بالبوية وطُبِع منها الآلاف العديدة التى وُزِّعَت على النواب وأصحاب الجرائد وكافة السياسيين، والتى أحدثت فى الشعب الفرنساوى كله أحسن وأجمل تأثير...".
كذلك يتبين من سيرة "مصطفى كامل" التى كتبها شقيقُه أن العبارات الوجدانية – التى أوردناها سَلَفاً، من خلال ترجمة الخبر الفرنسى المنشور بجريدة "أبو نضّارة" – كانت مكونة مِن ثلاثة أبيات شعرية، من تأليف "مصطفى كامل"، يقول فيها:
أفرنسا يا مَن رفعتِ البلايا عـن شعـوبٍ تهزُّها ذِكراكِ
انصرى مصرَ، إن مصر بسوءٍ واحفظى النيل مِن مهاوى الهلاك
وانشرى فى الورَى الحقائق حتى تجتلى الخـيرَ أمةٌ تهواك
وبرغم الأهمية التاريخية لهذا المصدر، الذى يوثق السيرة الحياتية الكاملة لـ"مصطفى كامل"، وجميع أعمالِه، مِن خُطَبٍ وأحاديث ورسائل، بالإضافة لاحتوائه على صورة لإحدى نُسَخ اللوحة المذكورة، فإنه لم يصرح باسم الفنان الذى تولى رسمها، أو بالأحرى الذى تولى تنفيذ التصميم الذى وضعه "مصطفى كامل"، كما لم يرِد ذِكرُه كذلك فى أية صحيفة من الصُحُف التى نشرت الخبر فى حينِه. غير أننا نرجح أنه فنانٌ فرنسيّ؛ اعتماداً على ما توحى به الفقرة التى سبق وأن أوردناها من خطاب "مصطفى كامل" لشقيقه.
وقد حاولتُ بدورى أن أستَجلى هذه النقطة، من خلال التواصل مع السيدة "إيميلى ديلفو"، مسؤولة الاتصالات والمعلومات والوسائط المتعددة بمجلس النواب الفرنسى، فأفادت فى رسالةٍ منها، وَرَدَتنى بتاريخ 12 فبراير 2018، أن مبانى مجلس النواب الفرنسى، وكذلك قسم التراث بالمجلس، لا تتضمن أية معلومات قد تتعلق باللوحة المذكورة.
ونعاود هنا طرح السؤال من جديد: إذا كانت هذه السيرة الكاملة المنشورة عن "مصطفى كامل" عام وفاتِه، قد تضمنت صورة اللوحة وتفاصيل دقيقة مهمة عنها، فما بالها لم تجتذب انتباه مَن أرّخو للفن المصرى الحديث؟
قد يحتجّ البعضُ هنا بأن التفتيش الدقيق فى مِثل هذه المرجعيات الضخمة أمرٌ عسير، وبخاصةٍ لو كانت على غرار سيرة حياة "مصطفى كامل"، بحيث تبلغ مِن الضخامة ما يربو على ألفٍ وستمائة صفحة، فضلاً عن أن قرابة أربعة عقود تفصلها عن معظم محاولات التأريخ للفن المصرى الحديث.
وقد يحملُ هذا الاحتجاجُ بعض الوجاهة، غير أنها سرعان ما تتبدَّد؛ حين نعلم أن السياسى الأديب الكاتب "محمد حسين هيكل" أوردَ باختصارٍ موضوع اللوحة وظروف الواقعة المتعلقة بها، ضِمن سيرة "مصطفى كامل"، التى اشتمل عليها كتابُه "تراجم مصرية وغربية"، الصادر عام 1929، أى بعد واحد وعشرين عاماً من صدور سيرة حياة "مصطفى كامل" السابق ذكرُها. ثم يأتى دور المؤرخ المصرى الشهير "عبد الرحمن الرافعي"، الذى اعتمد بدرجةٍ كبيرة على سيرة "مصطفى كامل"، المكتوبة بقلم شقيقه "على فهمى كامل"، والمذكورة سَلَفاً، لتأليف كتابٍ مرجعى مهم عنه، تَضَمَّن أيضاً واقعة اللوحة بشيءٍ من الاختصار. وقد صدر هذا الكتاب عام 1939، تحت عنوان "مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية"، وظلت طبعاتُه تتلاحق، إلى أن صدرت طبعتُه الخامسة عام 1984.
معنى هذا أن مصدرَين آخرين، أكثر انتشاراً مِن سابقِهما، وأيسرَ منالاً، ظلت طبعاتُ أحدِهما الخمس الأولى تتوالى على امتداد أربعين عاماً، دون أن يثير محتوى أى منهما انتباه المعنيين بتأريخ الفن المصرى الحديث! ليظل ذِكر "مصطفى كامل" فى كتاباتهم محصوراً فى شوارد قليلة شديدة العمومية، تقتصر على الإشارة إليه فقط باعتباره مُمَهِّداً للحراك الذى فجّره "سعد زغلول"، أو تتطرق بإيجازٍ شديد إلى وصف جنازتِه التى أسهم فيها "محمود مختار" بتمثالٍ نصفى، خرج به طلاب مدرسة الفنون الجميلة، للمشاركة فى تشييع الزعيم الشاب لمثواه الأخير.
على أى حال، فإن مكانة "مصطفى كامل" التاريخية لا يُضيرُها مثل هذا التجاهل، الذى حال دون إلقاء الضوء على وقائع هذا الاقتران السياسى الفنى الفريد فى مصادر التأريخ للفن المصرى الحديث، والذى أغفلَ حقيقة الوَعى الجمالى الفريد والمبكر، الذى تمتع به ذلك الزعيم الشاب الفَذّ، مقارنةً بغيرِه من مشاهير عصره، وكذلك سَبقِه الريادى لاستثمار قوة الفن الناعمة فى معركة الاستقلال الوطني. إنما الخسارة الفعلية هى ما لَحِق بذاكرة الفن المصرى الحديث لِزَمَنٍ طويل؛ حين خلَت مرجعياتُه التاريخية من إثبات هذه الواقعة الضخمة المهمة، وما كان يمكن أن ينتُج عن إثباتِها مبكراً مِن استكمالٍ لمعالم السياق التاريخى للفن المصرى، ومِن اجتهاداتٍ فى التفسير، والتحليل، والتأويل، وربط السياقات بعضِها ببعض. ويظل السؤال الحائر مفتوحاً على كافة الاحتمالات: لماذا تجاهل مؤرخو الفن المصرى "مصطفى كامل"؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة