ليس فى الأمر مبالغة عندما نصف أم كلثوم، بأنها أسطورة، هى كذلك، أسطورة، عابرة للأجيال والطبقات، الإجماع عليها يتجاوز خلافات السياسة، وتباين الأفكار، ما جعلها صامدة أمام تحولات الزمن فى حين أن فنانين سبقوها أو عاصروها أو جاءوا بعدها تم نسيانهم تمامًا أو تجاهلهم، ولكن لم يستطع أحد أن يتجاهل "الست"! لم تكن الساحة خالية عند ظهور أم كلثوم، كان هناك عدد كبير من المطربين والمطربات الذين يحظون بشعبية هائلة، وهى لم تكن سوى فتاة ريفية لا تملك إلا حنجرتها، وموهبة غير محدودة، وذكاء فطرى مكنها من أن تحدد هدفها، وتعرف ما تريد، هكذا جاء فى مقدمة كتاب "مذكرات الآنسة أم كلثوم"، إعداد محمد شعير، والصادر عن سلسلة كتاب اليوم التى تصدرها مؤسسة أخبار اليوم.
بداية مشوار الغناء كان صدفة، حيث ذات صباح تصادف أن الراحل الشيخ إبراهيم السيد، والد أم كلثوم فى طريقه إلى خارج الدار، فوجدها فى "صحن" الدار تترنم فى صوت خافت ببعض الأناشيد وقد جلست تلهو بعروستها الصغيرة، شىء ما فى صوت الصغيرة أم كلثوم استوقف والدها فوقف يستمع لها فى صمت وهى تغنى أحد أناشيد أخيها خالد، الذى كان ينشد فى الأفراح قبل أن يعلو صيتها، وبعد أن انتهت الصغيرة من النشيد وإذ بها تفاجأ برؤية والدها الذى طلب إليها أن تعيد النشيد فداخلها الخوف والذعر وأنكرت أنها كانت تغنى وأقسمت ألف يمين ويمين منكرة هذه التهمة أشد الإنكار، وبلغ بها الخوف أن بكت.
وبعد أن بكت أم كلثوم طيب والدها خاطرها وألح عليها فى معاودة الغناء، وألحت هى فى الإنكار والبكاء وأخيرًا أخرج لها الوالد "ملبسة" من جيبه ووعدها بها إذا غنت ثانية، وأمام هذا الإغراء الشديد غنت سومة الصغيرة وأعادت النشيد الذى كانت تترنم به، فما انتهت منه حتى سألها والدها تغنى الليلة يا أم كلثوم؟ وهزت الصغيرة رأسها وقالت: لا، وعاد الوالد إلى إلحاحه وأم كلثوم العنيدة إلى رفضها، وأخيرًا أغراها الوالد بطبق مهلبية يعطيه لها تأكله لوحدها إذا قبلت الغناء هذه الليلة، وكان الإغراء شديدًا وكان الجواب بالقبول سريعًا، وأمام طبق المهلبية تلاشت كل اعتراضات أم كلثوم، وغنت تلك الليلة وأطربت وحازت الاستحسان والنجاح، ووضعت قدمها على أول درجة من درجات سلم المجد الصاعدة إلى سماء الشهرة والخلود.
كانت أم كلثوم فى عداد الطلبة النظاميين بكتاب القرية، حيث كانت تقصده كل صباح مع أخيها الشيخ خالد، وكان أخوها بحكم أنه مطرب العائلة وفتاها المدلل، يستطيع أن يزوغ من الكتاب وعصا العريف وقتما يشاء وعندما يشاء، ملتمسًا لنفسه شتى الأعذار والحجج كأن تكون لديه سهرة فى المساء مضطرًا للاستعداد لها! ورغم أن أم كلثوم لم يكن لها مثل هذا الحق، ولكن سومة الصغيرة لم تعد مع ذلك وسائلها الخاصة فى "الزوغان" من الكتَاب، فكلما حلا لها ذلك كانت تلجأ إلى الملح فتضع منه قليلاً فى عينيها، ولا يصبح الصباح إلا وكل عين قد انتفخت وتورمت وأصبحت حمراء كاطماطم، والدموع تنسكب فى غزارة.
وفى ليل إحدى الليالى سمعت أم كلثوم حديثًا يدور بين والديها: قال الوالد بزيادة على أم كلثوم بقى تروح الكتاب وانصرف ذهن الأم إلى غير السبب الحقيقى الذى يعنيه الوالد فقالت: تمنعها ليه دى لسه صغيرة؟.. وظل الوالد: صحيح صغيرة ولكن بزيادة خالد يروح ما أقدرش أصرف على الاثنين وادفع لهما مصاريف الكتاب كل جمعة.
وقد يهمك أيها القارئ أن تعرف كم كانت هذه المصاريف الفادحة التى اضطرت معها أسرة أم كلثوم إلى أن تخرجها من الكتاب؟ كانت قرشًا صاغًا واحدًا فى الأسبوع.
روبية واحدة فقط لاغير كانت أول مبلغ من المال قبضته أم كلثوم من كسبها الخاص ومن عرق جبينها أو حنجرتها على الأصح، والروبية عمله هندية من الفضة كانت منتشرة فى مصر أيام الحرب وهى تساوى ستة قروش ونصف القرش آنذاك، حيث وصل هذا المبلغ لسومة عندما دعيت لإحياء حفلة ساهرة فى بندر السنبلاوين مع أفراد تختها الصغير، وغنت أم كلثوم وأطربت وحازت الاستحسان ونجحت السهرة، وأخذت سومة قطعة الفضة الصغيرة وربطتها فى طرف منديلها أمسكتها بيدها وشدت عليها بقوة حتى لا تفلت منها.
وكانت سومة قد عادت للمدرسة مرة أخرى بعد أن تمكنت من دفع مصاريفها من أموالها التى ترزق بها فى الحفلات، وكانت تجود القرآن الكريم على المرحوم والدها فحفظت معظمه قبل الخامسة عشرة وفى تلك السن تركت المدرسة لتتفرغ لمستقبلها المجيد ولم يثنها ترك المدرسة عن مواصلة التحصيل بنفسها بقراءة الروايات الصغيرة وبعض كتب الأدب وكان أول كتاب وقع فى يدها "النظرات للمنفلوطى" فأعجبت به ايما إعجاب وملك عليها كل أوقات فراغها ومن ساعات نومها حتى قرأته كله فتعلقت بأسلوب المنفلوطى وبحثت عن كل مؤلفاته واشترتها كلها وقرأتها ثم غرمت بالشعر فقرأت منه الكثير، وهكذا دأبت على انتهال الأدب من شتى مناهله بشغف وهواية فاكتسبت ذوقًا شعريًا جميلا كما تمكنت من اللغة العربية تمكنًا جعلها فى صف المتأدبات المثقفات.
ومن طرائف التى ستجدها فى مذكرات "أم كلثوم" هو أن والدها كان يمنعها من أن تغنى "يا ليل" لأنه كان يرى أن "يا ليل"هذه لا تغنيها إلا المغنية "الأبيحة".
داخل الكتاب سيجد القارئ الكثير من تفاصيل حياة سيدة الغناء العربى "أم كلثوم" حيث تم إزاحة الستار عن ناحية مجهولة من نواحى مطربتنا كوكب الشرق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة