لا يُمكن أن تتوقّع للحظة، وأنت تمرّ من أمام جناح مكتبة "تنمية" بمعرض الكتاب، وترى الطوابير التي اندفعت من الخارج إلى الداخل متزاحمة مهرولة، أنّ الذي يعقد حفل توقيع بالدّاخل هو كاتب حقيقي، إذ أنّ المشهد العربي –المصري تحديدًا- رسخ في تفاصيله منذ زمنٍ قريب، أنّ الجمهور لم يعُد يتزاحم إلّا على كتّاب "البيست سيللر"، بمعنى أدق، كتّاب الشّباب والجماهير الذين يكتبون الكتابة البسيطة الخالية من الحرفة ومن الفنّ، إنّها الكتابة التي تخاطب فئات عمرية بعينها، معظمها من المراهقين، وليس أدلّ على ذلك من السنوات التي أعقبت الحادي عشر من يناير 2011، حيث كانت معظم الحشود تتزاحم في توقيعات كتّاب بعينهم، أبرزهم "أحمد خالد توفيق"، وهو الذي اعترف إنّه لا يكتب إلّا للمراهقين!
ثمّ بعد قليل، ستلاحظ أنّ كاتبًا كويتيًا اكتسب شهرته عبر حصوله على جائزة "البوكر" العربية، "سعود السنعوسي"، كان يوقّع أحدث رواياته "حمام الدار"، ما يضعنا أمام تصوّر جديد عن القارئ الحالي ومدى تطوّره، هل نضجت عقلية القارئ واكتسب وعيه متغيّرات أخرى؟ هل يُمكن أن نزعم أنّ الكتابة الخفيفة البعيدة كلّ البعد عن الأدب قد أفل زمنها؟
ها هو كاتب حقيقي، جاد، هبط من سماء "البوكر"، يجلس ليشاهد بعينيه متبدّلات مغايرة عن المعهود، أو عمّا عهدته خريطة الكتابة العربية منذ سنوات، من أنّ المتحكّم في سوق القراءة هم كتّاب "البيست سيللر"، ممّا منح لفظة "بيست سيللر" معنى مغايرًا، معنى نسبيًا، لكنّه في الوقت نفسه تحوّل إلى سبّة كُبرى، وكأنّك إذا أردت أن تشتم كاتبًا تافهًا، قلت له: أنت كاتب "بيست سيللر"!
الوضع بدأ يتغيّر، كتّاب "البيست سيللر" اليوم هم الجّادون، الحقيقيون، ومع حالة "سعود السنعوسي" يبدو الأمر مختلفًا، فهو أشهر كاتب حصل على "البوكر"، بمعنى أصحّ، آخر أشهر الكتّاب الذين حصلوا عليها، من قبله حصل عليها "بهاء طاهر" و"يوسف زيدان" و"عبده خال"، لكن "سعود" كان المفاجأة، فهو حصل عليها بثاني عمل روائي يكتبه، وهو ابن اثنتي وثلاثين سنة، ومن بعدها، اتّضحت ملامح مشروعه الروائي، هو يكتب عن الأزمات الرّاهنة –وغير الرّاهنة أحيانًا- في "الكويت"، وإن بدت كتابته صادمة، كاشفة، لا توالي ولا تواءم، كتابة صادقة إلى أبعد ما يكون الصدق، ففي روايته الأولى "سجين المرايا" الصادرة عام 2010 والحائزة على جائزة الروائية "ليلى عثمان" في القصة والرواية، اقتحم "سعود" قضية الغزو العراقي، وتقفّى أثر الغزو داخل نفوس الكويتين، وتراكمات هذا الأثر.
ثم جاءت انطلاقته الكُبرى برواية "ساق البامبو"، الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2012 ثم جائزة "البوكر" 2013، والتي يعرّج فيها على سطوة الأفكار العنصرية في مجتمع "الكويت" بالتحديد، وفي المجتمع الخليجي على وجه العموم، سطوة النزعة التي تُهلك مبادئ وأسس المواطنة، وقد لاقت الرواية رواجًا عظيمًا، ولعلّ المجتمع الثقافي المصري استقبلها بحفاوة لم يستقبل بها جميع الروايات التي حازت على نفس الجائزة من بعدها، هنا أتحدّث عن مجتمع النخبة، النقّاد والكتّاب، ناهيك عن المجتمع الاستهلاكي، وهم القرّاء، انتشرت بينهم انتشارًا غير مسبوق، لم يحدث ربّما إلّا في روايات بعينها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أهمّها "عمارة يعقوبيان" للروائي "علاء الأسواني"، و"عزازيل" للروائي "يوسف زيدان"، ودفع بروايته التاليتين لت"ساق البامبو" إلى نفس الانتشار، وهما "فئران أمّي حصّة" التي وصلت إلى قائمة "الشّيخ زايد" الطّويلة، ورواية "حمام الدّار" التي أتوقّع لها جائزة كُبرى.
هل يُمكن أن نزعم أنّ "سعود السنعوسي" –الذي يتحدّث العامية المصرية ويعتزّ بعشقه لمصر- تحوّل إلى ظاهرة؟ فإذا كان الأمر كذلك، ما أسباب استمرار هذه الظّاهرة رواية بعد أخرى؟ وإذا صحّت هذه التسمية فهل يُمكن أن نزعم –أيضًا- أنّه ظاهرة حميدة؟
غالب الأمر، أنّ القارئ العربي أصابته إفاقة مباغتة، تحديدًا خلال العامين الأخيرين، معظم الظّواهر التي تضبّب الوعي انحسرت، وحلّ بديلاً عنها وعي جديد، بأسماء حقيقية، منتشرة في كافة بلدان الوطن العربي، منهم "حجي جابر" في "قطر"، و"بثينة العيسى" في الكويت"، و"محمد حسن علوان" في "السعودية"، و"إسماعيل يبرير" و"سمير قسيمي" في "الجزائر"، وغيرهم كثيرون.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة