ألقى الإمام الأكبر الدكتور أحمَد الطَّيب، شيخ الأزهر الشَّريف، الكلمة الرئيسية فى الجلسة الافتتاحية للاحتفال بالذكرى الـ 50 لتأسيس الجمعية الإسلامية فى لشبونة، بحضور رئيس البرتغال مارشيلو دى سوزا، والأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، وإدوارد روديجيس رئيس البرلمان البرتغالى، وأنطونيو كوشتا رئيس الوزراء، وأوجيستو سانتوس سيلفا وزير الخارجية، وعبد الكريم وكيل رئيس الجمعية الإسلامية البرتغالية.
وقال الإمام الأكبر، إن العاصمة البرتغالية لشبونة كان لها شأنٌ وأى شأن فى تاريخ المسلمين العلمى والأدبى والتشريعى والثقافى، وقد كان هناك سيل جرَّار من علماء الإسلام من الذين ولدوا ونشأوا بالبرتغال إلى جانب عطائهم الفكرى، مؤكدًا أن هذه الزيارة أيقظت عندنا عزما قويًا على افتتاح قسم للغة البرتغالية وآدابها بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر.
وأشار إلى أن مصطلح «المواطنة» مصطلح أصيل في ثقافتنا الإسلامية، وقد شعت أنواره الأولى فى دستور المدينة المنورة وما تلاه من كتب وعهود لنبي الله صلى الله عليه وسلم يحدد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين، على أسس واضحة المعالم، بينة القسمات، تؤكد على أن «المواطنة» ليست حلا مستوردا، وإنما هو استدعاء لأول ممارسة إسلامية لنظام الحكم الذي طبقه النبي صلى الله عليه وسلم في أول مجتمع إسلامي أسسه وهو دولة المدينة، وهذه الممارسة لا تتضمن أيَّ قدر من التفرقة أو الإقصاء لأي فئة من فئات المجتمع آنذاك. مشيرا إلى أن ترسيخ «فقه المواطنة» بين المسلمين هنا فى أوروبا وغيرها من المجتمعات المتعددة الهويات والثقافات خطوة ضرورية على طريق «الاندماج الإيجابى».
وتقدم الإمام الأكبر بخالص الشكر والتقدير والعرفان للشعب البرتغالى ممثلًا فى البرفسور مارشيلو دى سوزا رئيس الجمهورية، على روحه الحضارية المتسامحة التى يتميز بها، معربًا عن سعادته فى هذه المناسبة السعيدة التى فتحت أبواب الأمل فى نشر مثل هذا الأنموذج الطيب فى العيش المشترك بين المواطنين، فى سائر أقطار أوروبا.
** وإلى نص كلمة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف:
يسرنى باسمى وباسم الأزهر الشريف ومجس حكماء المسلمين أن أرحب بكم على أرض البرتغال، وفى عاصمتِها العريقة لشبونة، هذه العاصمة التى كان لها شأنٌ وأى شأنٍ فى تاريخ المسلمين العلمى والأدبى والتشريعى والثقافي، والَّذى ما أظن أنه قد أخذ حظَّه الواجب من البحث والتنقيب، والكشف عن وشائج القُربى الفكريَّة بين الغرب والشرق عن طريق هذه العاصمة وأخواتِها من مُدن دولة البرتغال ومراكزِها الحضاريَّة والثقافيَّة.
وأنا شخصيًّا باعتبارى خرِّيج أقدم جامعة فى العالَم وهى جامعة الأزهر، أشعُر بدَيْنٍ كبيرٍ لهذا البلد، لسبقها المبكر فى بناء تاريخ المسلمين وثقافتهم، لقد درستُ فيما دَرستُ وبخاصَّة فى مرحلة الدِّراسات العُليا، مراجعَ أصيلةٍ فى علوم العقيدة والفلسفة الإسلامية -التى هى تخصُّصى الدَّقيق- فى مقدِّمتها كُتب القاضى أبى الوليد الباجى فى عِلم الجدَل وعلوم الشريعة، وهو من أكبر شُرَّاح موطَّأ الإمام مالك فى الحديث النبوى الشَّريف، ولم نكن نعلم آنذاك أن البَلدة التى وُلِد ونشأ بها ونَشرَ علومَه فيها هى مدينة باجَة التى تعد مركزا علميا وحضاريا أنجب الكثيرين من علماء الأمة وأدبائها ومؤرخيها.، ثم علمنا فيما بعد أن هذه المدينة هى إحدى مدن دولة البرتغال، وأنَّ سَيلا جرَّارا من علماء الإسلام المؤسِّسينَ لحقولٍ معرفيَّةٍ جديدةٍ فى الفكر الإسلامى كانوا بُرتغاليِّينَ مولدًا ونشأةً وعطاءً، وقد توزَّعوا على فُنونٍ عديدةٍ من العلوم الإسلامية، كالأصلين: أصول الدِّين وأصول الفقه، والتَّاريخ والأدب، والحكمة والفلسفة.
ومن المعلوم اليوم أن أى باحثٍ لا يستطيع أن يرصد تاريخ عالِمٍ أديبٍ من علماء الغرب الإسلامى إلَّا بعد الرُّجوع إلى موسوعة «الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة» لأبى الحسن على بن بسام الشَّنترِيني، أو بعبارة اليوم ابن بسَّام البرتغالي، هذا العالِم المبدِع الذى وُلد فى شَنْتَرِيَّة (سانترام) وتثقَّف هنا بلشبونه، حتى أصبح من أعلم الناس بفنون اللغة والأدب والنقد، وهكذا دواليك فى كل ما يتعلق بتراث المسلمين فيما يعرف حديثا بالغرب الإسلامى.
فما من مدينة من مدن البرتغال إلا وقد تركت بصمة واضحة يدين لها تاريخ المسلمين الثقافى بالفضل والسبق، فسلام على مدينة «فارو»أو «شنتمرية الغرب» ومدينة «شلب«silves» و«باجة»«beja»و«يابُرة»«Evora»و«شَنْتَرَة»«Cintara» سلام على كل مدينة فى هذا البلد العريق ساهمت فى إثراء الحضارة الإنسانيَّة بالحكمة التى انتجتها عقولهم وصنفتها أقلامهم. سلام على أبنائها الذين لا يزالون يعكسون هذا الروح حتى يومنا هذا.
ومما يجب أن أعترف به أمامكم أن هذه الزيارة أيقظت عندى عزما قويا على أن أعمل مع زملائى فى الوفد المرافق، وهو افتتاح قسم للغة البرتغالية وآدابها، بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر الشريف، كما نأمل أن نبدأ بحصر التراث الإسلامى المتعلق بالبرتغال وما أنجبته من مشاهير العلماء فى العلوم الإنسانية والتجريبية على السواء. يوقع بعض هذا العبئ على كواهل شباب الباحثين هنا المتخصصين والمعنيين بتاريخ هذا البلد، وكذلك المتخصصين بأقسام اللغة العربية وآدابها وتاريخ العلوم وفلسفتها. والأزهر على استعداد أن يتعاون معهم بما ييسر لهم هذا المهمات العلمية التى آن الأوان لأن تأخذ حقها من النظر العلمي، ومكانها من المعارف الحديثة.
وأمر آخر تعلمونه أعتز بتسجيله هنا، وهو ذلكم الانطباع الذى خرجت به شخصيا الذى يعكس لمسة الانصاف التى لا يعييك أن تطالعك وأنت تستمع إلى المسؤولين والمثقفين فى هذا البلد، وهذه الأريحية الراقية المتمثلة فى التذكير بما للمسلمين من فضل مسيرة حضارة البرتغال، بل حضارة المنطقة بأسرها، وهذا أمر لا نسمعه فى بلدان مشابهة، كان لحضارة الإسلام فيها دور مشابه. فشكرا لهذا اللمسة التى تفيض وفاء وعرفانا وإنصافا وعدلا.
أيها السادة والسيدات:
ولا ريب أن تجربة التعايش المنسجم فى البرتغال بين مختلف الأطياف تجربة رائدة، أعتقد أنها تطبيق عملى لمفهوم «المواطنة» الذى لا نمل من التذكير به وتأكيده وتكراره على المسامع فى مختلف المحافل التى نشهدها فى الغرب والشرق على السواء، فمصطلح «المواطنة» مصطلح أصيل فى ثقافتنا الإسلامية، وقد شعت أنواره الأولى فى دستور المدينة المنورة وما تلاه من كتب وعهود لنبى الله صلى الله عليه وسلم يحدد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين، على أسس واضحة المعالم، بينة القسمات، تؤكد على أن «المواطنة» ليست حلا مستوردا، وإنما هو استدعاء لأول ممارسة إسلامية لنظام الحكم الذى طبقه النبى صلى الله عليه وسلم فى أول مجتمع إسلامى أسسه وهو دولة المدينة. وهذه الممارسة لا تتضمن أى قدر من التفرقة أو الإقصاء لأى فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنما تضمنت سياسات تقوم على التعددية الدينية والعرقية والاجتماعية، وهى تعددية لا يمكن أن تعمل إلا فى إطار المواطنة الكاملة المساواة التامة.
وإننى إذ أدعو إلى تبنى مفاهيم «المواطنة الكاملة» أتمنى من السياسيين ورجال الدين وعلمائه والمثقفين والمفكرين أن يتنبهوا لخطورة المضى فى استخدام مصطلح«الأقليات» الذى يحمل فى طياته معانى التمييز والانفصال، وبذور الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد الأرض للفتن والانشقاق، بل يصادر هذا المصطلح ابتداء على أية أقلية كثيرا من استحقاقاتها الدينية والمدنية، فالمسيحى المصرى هو مواطن مصرى مواطنة كاملة فى الحقوق والواجبات، والمواطن المسلم فى البرتغال هو مواطن برتغالى كامل الحقوق والواجبات، ولا محل مع هذه المواطنة الكاملة لأن يوصف أى منهما بـ «بالأقلية» الموحية بالتمييز الاختلاف فى معنى «المواطنة».
وفى اعتقادى أن ترسيخ «فقه المواطنة» بين المسلمين هنا فى أوروبا وغيرها من المجتمعات المتعددة الهويات والثقافات، خطوة ضرورية على طريق «الاندماج الإيجابي» الذى دعوت المسلمين إليه فى أكثر من عاصمة أوروبية، فهو الذى يحفظ الأوطان وتماسكه، ويرسخ تأصيل الانتماء الذى هو أساس الوحدة فى المجتمع، كما يدعم قبول التنوع الثقافى والتعايش السلمي، ويقضى على مشاعر الاغتراب التى قد تجعل من الصعب على البعض الانخراط فى مجتمعاتهم، أو الاختلاط مع غيرهم من جيرانهم المختلفين عنهم فى الدين.
ومن نعم الله على المواطنين المسلمين فى البرتغال أنهم لا يواجهون تصرفات تسيئ إلى دينهم ونبيهم مثل ما يواجهه بعض المسلمين فى دول أخرى، مما يشجعهم ويدفعهم دفعا إلى «الاندماج الإيجابي» فى مجتمعاتهم التى ولدوا فيها وصاروا جزء لا يتجزأ من نسيجها الوطنى بكل أبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية. وأن مجتمعهم البرتغالى لا بتوجس من فتح الأبواب أمامهم وأمام غيرهم من البرتغاليين المختلفين دينا وعرقا. وللأسف الشديد أن هذه الحواجز لا تزال تعمل سلبا فى تهميش كثير من الشباب الأوروبى فى الدول الأخرى، والتى كثيرا ما تحمله إلى الانضمام إلى حركات العنف والإرهاب المسلح.
وأخيرا أتقدم باسمى وباسم الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين بخالص الشكر والتقدير والعرفان للشعب البرتغالى ممثلا فى البرفسور مارشيلو دى سوزا رئيس الجمهورية، الذى نقدر لسيادته هذه الروح الحضارية المتسامحة التى يتميز بها، والشكر موصول إلى الجمعية الإسلامية التى نتقدم لها بخالص التهنئة بمرور نصف قرن على إنشائها، وأعرب عن سعادتى وسعادة الوفد المرافق بمشاركتنا فى هذه المناسبة السعيدة التى فتحت لنا أبواب الأمل فى نشر مثل هذا الأنموذج الطيب فى العيش المشترك بين المواطنين، فى سائر أقطار أوروبا، فهو الدرع الواقى للأوطان مما يتربص بها تربصات جماعات العنف والإرهاب المسلح وأضيف أيضا من مخططات الإسلامو فوبيا.
عدد الردود 0
بواسطة:
كريم
خطبة تحفة!
طوبى لمن كتبها بهذا الإتقان!