ستظل مشاهد الحضور الكثيف للمصريين بالخارج أمام لجان الانتخابات الرئاسية، واحدة من أهم المشاهد الدالة على حجم التحول فى استقبال واستيعاب المواطنين للأحداث والفرق بين الوعى الحقيقى والوعى الزائف القائم على محفوظات سياسية تفقد معناها. المصريون فى الخارج لا يمكن الادعاء بأنهم خضعوا لأى نوع من الدعاية، أو غسيل المخ، وهم يعيشون فى بلاد أخرى، مئات الآلاف يتوزعون فى دول مختلفة وداخل كل دولة فى مدن وقرى ومهن مختلفة، لكنهم اتخذوا مواقف واحدة عندما قرروا المشاركة وهم يعرفون أن النتائج محسومة، ويرسل هؤلاء رسائل إلى الداخل والخارج بهذا الحضور.
حرص كثير منهم على السفر لمئات الكيلومترات للمشاركة فى التصويت والاحتفال بهذا التصويت، فى مشهد لافت، بدا مفاجئا لكثيرين من «العمقاء» ممن اعتادوا إطلاق تحليلات ونظريات من الوضع «الجالسين الكيبورداء». لعل هؤلاء «العمقاء» يكتشفون أنهم يعيشون فى وهم تصنعه عزلة افتراضية تحول بينهم وبين ما يجرى فى الواقع، ومراقبة الخرائط وخطوط الصراع والتفاعلات السياسية والاقتصادية فى المنطقة والعالم.
يبدو من المشهد أن هؤلاء الذين خرجوا للجان يستوعبون التفاصيل أكثر من هؤلاء الذين يعيشون العزلة الاختيارية الافتراضية، ذهب هؤلاء للجان ليقولوا إنهم يرون بلدهم ويريدونها أفضل، ويشاركون فى صناعة المستقبل، يعبرون عن قناعتهم بأن هناك ما يستحق العناء، يمكن أن يختلفوا ويتفقوا فى التفاصيل من دون أن يختلفوا على الوطن.
فى المقابل تبدو حالة قنوات تركيا وقطر كوميدية، أرهقت نفسها خلال شهور فى الدعوة للمقاطعة، وقدموا تحليلات يتوقعون فيها أن المصريين لن يذهبوا للجان، وجاءت الحشود ليس فقط لتنسف تحليلاتهم بل أيضا ترد عليهم بالاحتفالات والأغانى التى تستفز الغربان ليكتشفوا أن كل ما أنفقوه من وقت وأموال راح هباء فى لحظات.
ولم يعد خافيا أن بعض العمقاء الذين انضموا لقطيع قنوات قطر فعلوا ذلك طلبا للمال أكثر مما هو قناعة، وبعضهم اضطر من أجل تأكيد الولاء للخروج فى مظاهرات بائسة فى لندن وبعض المدن الأوروبية لتقديم عروض «ستربتيز» يحاولون منع المصريين من التصويت، وكان الرد عليهم واضحا بالمزيد من التزاحم، لتأتى مساعيهم بنتائج عكسية، وإذا كانت قنوات قطر معذورة، فإن تبنى وجهات نظر هذه القنوات من قبل صغار العمقاء، تضاعف من منظرهم البائس.
فى المقابل فإن هذه الحشود تؤكد مرة أخرى مدى انفصال بعض سكان مواقع التواصل، وأن هناك فجوة بين الأغلبية، وبين عدد من النشطاء اعتادوا التعامل بتعالٍ مع ما يجرى، يقدمون أنفسهم على أنهم زعماء، فى أول نقاش يعلنون احتقار الجمهور.
ودائما يمكن قياس مدى عمق الشخص من خلال ما تحقق من توقعاته وتحليلاته، وخلال السنوات السبع كان هناك قطاع تصدر المشهد، يقدم نفسه على أنه أكثر عمقا وفهما، ويبالغ فى التقليل من آراء الناس العادية، يقفون سبع سنوات عند نفس النقطة، ينشرون توقعات تأتى على عكس الواقع وعندما يحدث ذلك يبقى الواحد منهم محاولا تبرير أخطائه فى التحليل بمزيد من التهويم والتعقيد، والأفضل أن يراجع هؤلاء مواقفهم مقارنة بما يتحقق، وعلى العكس يبدو المواطن العادى أكثر وعيا من دون ضجيج أو ادعاء، الواقع والصور تشير إلى أجيال متعددة شباب وكهول وعواجيز، تنسف فكرة التقسيم الجيلى.
كل هذه المعطيات تشير إلى وجود واقع سياسى ودرجات من الوعى لإبعاد السياسة بالداخل والخارج، بالرغم من أن نفس الناس يعيشون فى نفس المساحات الافتراضية ويتعرضون لدعايات مركزة تعتمد فى الكثير من الأحيان على شائعات أو أرقام وبيانات خاطئة، وتأتى تحركاتهم على عكس تحليلات العمقاء، وهؤلاء ربما بحاجة للكثير من التواضع وهم يتعاملون مع واقع أكثر تعقيدا من البقاء فى العزلة الافتراضية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة