"ما زلت أبكى يا أمى".. هذا ما نصل إليه بعدما نقرأ ثلاث حكايات رواها الكاتب والإعلامى إبراهيم عيسى، فى كتابه "مشارف الخمسين" الصادر عن دار الكرمة للنشر، وهو سيرة ممتعة وكاشفة مليئة بالمواقف المؤثرة والخواطر التى تجمع ببراعة بين ما هو حميمى والعام.
يروى لنا إبراهيم عيسى، ثلاثة حكايات مختلفة يمكننا أن نعطى لكل واحدة منها اسمًا على الترتيب، وهم: التعلق والألم والفراق، فالأولى عن اليوم الأول للطفل الذى ظل يحدق منتظرًا ظهور أمه من خلف نافذة الفصل فى الحضانة، فيقول: أجلس فى الحضانة صغيرًا منكمشًا فى اليوم الأول لى مع أبلة نور، وهذه الوجوه الغريبة عن عائلتى، منذ تركتنى أمى مبتسمة مشجعة ظللت صامتًا عصيًا على كل محاولات أبلة نور لإخراجى من كهفى. حدقت فى هذه النافذة المفتوحة على الممر المؤدى إلى باب الحضانة الرئيسى، منتظرًا عودة أمى، كم انتظرت، لا أعرف، ماذا فعلت حتى عادت، لا أعرف، ما زال ظهورها وراء الشباب يعبر أمامى مطبوعًا حتى اليوم على قلبى وسطح ذاكرتى، بل لعله غلاف كتاب عمرى، لم تكن قد ارتدت الحجاب بعد، وجهها الأبيض بملامح شباب هدى سلطان، وشعرها الأسود مصفوفًا كما تبدو نجمات السينما فى أفلام الستينيات، وتعلق حقيبتها على ذراعها، وترتدى تييرًا أزرق بنقاط بيضاء، قمت واتهجت إليها وهى تقف أمام الباب، تلقتنى مبتسمة تنحنى وتقبلنى، تسألنى: "انبسطت؟". وهل ينبسط أحد حين تغيب أمه أبدًا؟ كأننى لم أبرح هذا الكرسى كل هذه السنين!.
أما عن الحكاية الثانية، فهى عن الأب الذى يبكى زوجته بسبب آلامها، فيروى لنا إبراهيم عيسى هذه الحكاية قائلاً: ظل الأنسولين هو صديق عائلتنا منذ أصاب السكر أمى، صرنا جميعًا نحفظ الفرق بين الأنسولين البشرى والحيوانى، أسعار الأنسولين وتدرجها وصعودها، الأنسولين المائى، ماذا يفعل الأنسولين للبنكرياس، أثر نقص الأنسولين فى الجسم، كنا أطباء أمى بنظرات العيون حين نتابع إرهاقها أو ضعفها أو حيويتها "كانت أمى جبلاً من النور"، كان عم فوزى التمرجى هو الضيف الدائم لإعطاء أمى الحقن، ثم تعلم والدى كيف يعطى الحقن رغم ألمه الشديد من غرس سن الإبرة فى أمى حتى تتغير ملامحه وتدمع عيناه بعدها، خصوصًا عندما تكون الحقنة فى الوريد يبحث معها مستحثًا، ويربت برفق على بطن ذراعها بحثًا عن وريد، سافر والدى للتدريس فى ليبيا فتعلمت أمى كيف تعطى لنفسها الحقنة، ثم بدأ الحيوان إن مرضوا جاءوا إليها كى تعطيهم الحقنة، تعود أمى من غرفة الصالون الذى لم تتغير فيه لوحة مدينة فينسيا القماشية منذ بنينا هذا البيت، تجلس على الكنبة وهى تتنهد مرهقة ومتألمة من القدم السكرى، تهمس: "ربنا يشفى فلانة دى تعبانة قوى".
وفى حكايته الثالثة، يتذكر إبراهيم عيسى خوفه من قصيدة "أحن إلى خبز أمى" للشاعر الكبير محمود درويش، فيقول: أول رنة عود انفجر معها دمعى، ثم بدأت تنهال دموعى كمن سقط سده العالى، فأغرق روحه حزنًا، كان صوت مارسيل خليفة يغنى فى المسرح، "أحن إلى خبز أمى وقهوة أمى ولمسة أمى"، قصيدة محمود درويش التى تشوى عظام قلبى ألمًا، لم أستطع المقاومة، وكنت قد فقدت أمى منذ أشهر قليلة، فصار الدمع نهنهة، والبكاء نشيجًا، والموقف فضيحة، انشغل صديقى بجوارى بماذا سيفعل حين يتوقف الغناء فيرى الناس دموعى ويسمع الجمهور عديدى، اندمج الحضور فى التصفيق، بينما جريت بسرعة إلى خارج المسرح، هل يمكن لأغنية أن تفتق جدار عمرك.. قبل هذا كنت أتفادى هذه الأغنية إذا عبرت أو مرت أو جاءت سيرتها، أو تردد نغمها أو لمحتها.. أخيرًا قررت أن أختبر نفسى، فبحثت عنها مع سبق الإصرار والترصد، وشغلتها، ومع أول رنة عود اكتشفت أننى لم أكف يومًا عن الدمع لأمى، صارت كل الأغانى تجعلنى أبكى أمى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة