لم أعتد أن أكتب عن أمر يخصنى، فأنا أرى أن هذه المساحة محجوزة فقط للسادة القرّاء لتعبر عن همومهم وآلامهم وأفراحهم أيضا، والدفاع عن وطننا الغالى مصر وقضاياه، والوقوف فى وجه الظلم والفساد بكل قوة، ولكن ومع وفاة والدى الأسبوع الماضى، لم أتمالك نفسى، وقررت أن أكتب عن رحيله.
مات الذى كان يصدح بالحق، والساعى دائما للتصالح بين العباد، ونصير الغلابة والفقراء، والداعم والسند والحصن القوى لنا من رياح وعواصف الأزمات، والزارع فينا الكرامة والكبرياء وقيم الشرف والأخلاق والإباء ونظافة اليد.
مات والدى، فى يوم حزين، كئيب، كان وقع خبر وفاته على أذاننا، مؤلمًا، وقاسيا، أفقدنا القدرة على التصديق، وتخيلنا أننا فى كابوس مزعج، سيذهب بمجرد الاستيقاظ، ولكن تبين وبعد مرور ساعات، أنه حقيقة مرة. ومر شريط الذكريات سريعا، أمام عينى، وأنا مستقلا القطار المتجه إلى قريتى، فاو غرب، مركز دشنا، محافظة قنا، مستعيدا ذكرياتى الطويلة مع والدى منذ مولدى وحتى رحيله، التى لا يحصيها من فرط زخمها، عشرات المجلدات.
والدى الرجل الذى كان «أميا» لم ينل أى حظوظ من التعليم، أصر على تعليمنا أنا وأشقائى تعليما عاليا، متحديا كل الظروف والصعوبات ونصائح باقى العائلة، من أن التعليم دون جدوى، فى ظل المشاق والمتاعب الشديدة الذى يعانيها فى المتابعة والإشراف على زراعة أراضينا، وحاجته الملحة لنا.
والدى الذى يعد من كبار مزارعى عائلته ورقما صحيحا فى معادلة كبار الزراع وأهمهم على مستوى القرية والقرى المجاورة، رفض أن يتسرب أبنائه من التعليم لمساعدته فى متابعة أعمال الزراعة، وكان ينهر كل من يحاول أن يفتح ملف إخراج واحد منا من التعليم، أو ينال تعليما متوسطا، لمساعدته ومعاونته فى الزراعة، مصرا على أن مسألة تعليمنا خط أحمر وأننا جميعا سنتلقى تعليما عاليا مهما كلفه الأمر.
ورغم «أمية» والدى وعدم إجادته القراءة والكتابة، إلا أنه كان «مثلى الأعلى» الوحيد، ومصدر اعتزازى وفخرى بشخصه، وبما يتمتع به من عقلية راجحة، وحكمة بليغة، وقدرة مدهشة على الإلمام بكل مقاسات الأراضى وأسماء الأحواض بزمام قريتنا والقرى المجاورة، التى تصل إلى آلاف الأفدنة، ويعرفها، مترا مترا، ومن لديه مشكلة فى معرفة المساحات للأراضى يسارع باللجوء لوالدى ويجد عنده كل الإجابات، وكأنه مهندس مساحة عتيد، بجانب قدرته على الإلمام بكل فنون وعلوم الزراعة، أبهرت كبار مهندسى ومشرفى الزراعة من حملة البكالوريوس، ما مكنه من أن يزيد إنتاجية الفدان الواحد من أراضيه وبأى محصول يزرعه، بما يفوق ضعف ما يزرعه أقرانه، فى نفس المساحة وبنفس المحصول.
بجانب ما يتمتع به من حب شديد للوطن، وكان لديه مثلث مقدس، الجيش وجمال عبد الناصر وأم كلثوم، ولا يمكن أنسى فى حياتى يوما، عندما شاهد قناة الجزيرة، فى منتصف عام 1998، وهى المرة الوحيدة التى شاهدها طيلة حياته، قال لى نصا: «هذه القناة فتنة يا ولدى» وتركنى وانصرف، رافضا أن يشاهدها مرة أخرى، مكتفيا فقط بمتابعة التليفزيون المصرى بقناتيه، الأولى والثانية، علاوة على القناة الثامنة التى كانت تبث إرسالها لمحافظات جنوب الصعيد، قبل أن يتحول اسمها إلى قناة طيبة فيما بعد، وكان مواظبا على متابعة نشرتى الأخبار المذاعة الساعة السادسة والتاسعة مساء، وبشكل يومى، حتى وافته المنية، علاوة على متابعته الجيدة للأحداث السياسية داخليا وخارجيا، ويناقشنى فى قضايا جوهرية، وكنت أتعجب من إلمامه بالقضايا الوطنية، وقدرته على الفرز، وتنبئه المبكر بأن قناة الجزيرة ستصير قناة الفتنة فى الوطن العربى، وستمزق أوصاله، وهو ما تحقق ويتحقق على الأرض حتى كتابة هذه السطور.
أما أكثر ما لفت نظرى، وشد انتباهى بقوة، عدم ثقته نهائيا فى جماعة الإخوان والسلفيين، وكان يقول دائما، هؤلاء تجار دين، ولم يجالسهم يوما، وكان يعاملهم بغلظة، أثارت دهشتى، خاصة أن وجهة نظره هذه كانت مبكرة ومنذ أن انتشر إرهاب التسعينيات، وما كان يراه فيهم قبل 25 يناير بسنوات تحقق عقب وصولهم للحكم فى العام الأسود من تاريخ مصر 2012.
حنكة والدى، وحكمته وقدرته على الفرز، وصراحته وصدقه، وإيجاد الحلول المبتكرة، وخارج الصندوق لحل أعتى المشاكل، ونزع فتيل الأزمات مبكرا، كانت مثار إعجاب الجميع، فكيف يتمتع رجل بكل هذه الصفات رغم أنه لم ينل أى قسط من التعليم؟!
والدى، كان قارئا رائعا للمستقبل، وكنت استمع له كثيرا، وندمت أشد الندم، أننى لم أدوّن كل ما دشنه من مأثورات ومقولات أثناء حواراته وأحاديثه سواء معى أو مع آخرين وفى وجودى، وما من رأى قاله، إلا وتحقق حرفيا، وكأنه يقرأ «الطالع» كما يقولون، وعندما أستعيد مأثوراته، أندهش، وأقف مبهورا، خاصة أنها تمثل إنتاجا أدبيا قويا ورائعا وغزيرا!
رحيل والدى، صدمة عنيفة لى ولأشقائى، ونشعر أننا انكسر ظهرنا، ولا نملك سوى أن ندعو له بالرحمة والمغفرة، وأن يكون من أهل الجنة، ويسكب الله الصبر والطمأنينة فى قلوبنا.
ملاحظة مهمة:
أتقدم بالشكر الجزيل لكل من واسانى وقدم واجب العزاء بأى وسيلة من الوسائل، سواء بالحضور فى قريتنا فى قنا، ولمدة ثلاث أيام متتالية، أو بالحضور فى عمر مكرم، أو بالاتصالات الهاتفية، والرسائل النصية، عبر وسائل الاتصال المختلفة، «واتساب وسوشيال ميديا، فيس بوك وتويتر»، أو تليغرافيا، وإذا كان «اليوم السابع» نشر معظم الحضور المشاركين فى العزاء الذى أقيم بمسجد عمر مكرم الخميس الماضى، فواجب علىَّ أن أذكر بكل التقدير والاحترام، الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، على مساندته فى مصابى الآليم، وإرساله، وفدين فى عزاء الصعيد وعمر مكرم، رغم انشغاله الشديد، كما أشكر، اللواء أشرف رياض مدير المباحث الجنائية بمديرية أمن قنا ورجاله المحترمين، والعميد خالد غانم رئيس مباحث المديرية، على حضورهم وتقديم واجب العزاء، كما أشكر كل عمد ومشايخ وأعيان قبائل هوارة، وبالأخص قبيلتى «هوارة البلابيش، وغيرها من القبائل.
ويبقى الشكر الأكبر، لزملائى وأصدقائى فى مؤسستنا الغراء «اليوم السابع»، بكل إدارتها المختلفة، من أصغر عامل وحتى رئيس مجلس الإدارة، ولأول مرة، أشعر بقيمة ما كان يؤكده الأستاذ خالد صلاح، دائما من أن «اليوم السابع»، صحيفة القيم الأخلاقية والوطنية، فالجميع كانوا جنبى كتفا بكتف، يتلقون العزاء، وكأن والدى والدهم جميعا، إحساس، صعب ترجمته بالكلمات أو الأوصاف.
أما الأستاذ خالد صلاح، رئيس مجلس الإدارة، فيكفى أن كل عائلته، كانت فى العزاء يقفون بجوارى فى دعم مطلق، وهو ليس بغريب على هذا الإنسان الرائع، الذى خَلصت فى وصفه كل الكلام والأوصاف!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة