أكرم القصاص - علا الشافعي

عباس شومان

الجهاد المفترى عليه!

الخميس، 12 أبريل 2018 06:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تزييف المصطلحات وتغيير معناها أداة خطيرة تستعمل فى معركة الوعى التى تعانى آثارها أمتنا العربية والإسلامية، وربما لم ينجُ كثير من الناس من الانسياق وراء مصطلحات حُرفت دلالاتها وحُملت ما لا تحتمل من المعانى، فراحوا يستعملونها دون تبصر. ومن أكثر المصطلحات التى دلستها الجماعات الإرهابية مصطلح الجهاد، فقد أصبح الجهاد فى أذهان غالب الناس مرادفًا للقتال وما يترتب عليه من إزهاق بعض الأرواح وأَسر بعضها، ولم يعد الجهاد يرتبط فى الأذهان بدفع المعتدين ورد كيدهم، وإنما تعدى أو أريد له أن يتعدى فكرًا وسلوكًا إلى استباحة المخالفين فى الدين ولو كانوا مسالمين، بل المخالفين فى الفكر من المنتمين لذات الدين، وبسبب هذا التزييف لمعنى الجهاد أصبح مجرد ذكر لفظ الجهاد كافيًا لإرعاب الآخرين، بل أصبح كثير من المسلمين يتحاشى ذكر كلمة الجهاد، وكأنها لو لم تكن فى شريعتنا لكانت صفحتها أنصع وللتسامح أقرب! وانشغل بعض الناس بمحاولة إثبات أن الجهاد ناسب زمانًا ما فى تاريخنا الإسلامى، وليس بالضرورة أن يناسب عصرنا الحالى، فى حين اجتهد آخرون لإثبات أن الجهاد جهاد دفع لا جهاد طلب!
 
والحقيقة أنه لا داعى لهذا التكلف فى الدفاع عن الجهاد مصطلحًا وسلوكًا، ولا لأحاديث النفس التى تدور فى صدور بعض الناس حول حقيقة الجهاد، فارتباط الجهاد بالقتال وجعلُه مرادفًا مطلقًا له هو المنطلق الخاطئ الذى أوقعنا فيه الإرهابيون، فما من عالم من سلفنا الصالح، ولا كتاب لغوى يفسر الجهاد بالقتال ويقصره عليه، فالجهاد عمومًا هو بذل أقصى الجهد لتحصيل مرغوب فيه أو دفع مرغوب عنه، من غير نظر إلى موضوع أو وسيلة. وعلى ذلك، فكل جهد مبذول لتحصيل مراد أو دفع غير مراد هو جهاد، وقتال العدو لدفع شره ينطبق عليه تعريف الجهاد من هذا المنطلق، ولا يستطيع أحد أن يعيب الجهاد بهذا المعنى، فالقوانين والمواثيق البشرية تقر حق الدفاع عن النفس والعِرض والدم والأرض، ولا أظن أن عاقلًا يطلب من المظلومين فى شتى بقاع الأرض أن تُغتصب أراضيهم، وتُنهب ثرواتهم، ويُزور تاريخهم، فضلًا عن قتلهم وتشريدهم، دون أن يكون لهم وقفة أو رد فعل!
 
والجهاد بهذا المعنى هو عين ما جاء به الشرع الحنيف تحت اسم الجهاد القتالي، ولكن قصر الجهاد عليه تدليس كبير وخطأ محض، فما أكثر المرغوبات التى تستوجب بذل الجهد لتحصيلها غير هزيمة الأعداء فى ساحات القتال! فطلب العلم جهاد، والسعى على الأرزاق جهاد، والإصلاح بين الناس جهاد، والصبر على إيذاء الآخرين جهاد، ومنع النفس من اتباع الهوى جهاد، ورعاية الآباء والأبناء والأزواج جهاد، والاجتهاد فى بناء الأوطان وتنميتها جهاد، وإتقان العمل جهاد. وفى القرآن ما يؤيد هذا السياق، حيث يقول الله عز وجل: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)، أى جاهدهم بهدى القرآن حتى ينقادوا لأحكامه كما قال ابن عباس، وليس الجهاد فى الآية هو القتال، حيث إنه لم يكن قد شُرع، لأن السورة مكية والجهاد تشريع مدنى، ولا يُتصور أن يكون القرآن سيفًا بيد محارب يقطع به رقاب الناس، وإنما المقصود أنه حُجة على الخلق بما فيه من أمر ونهى وإرشاد.
 
ويدخل فى هذا السياق أيضًا قول الله تعالى: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا)، فالمراد أنه إن ألح الأبوان على ابن لهما وحاولا صرفه عن الإسلام فلا يسمع لقولهما، وليس المراد بداهة جهاد القتال! وكلنا يحفظ قول النبى- صلى الله عليه وسلم–للشاب الذى أراد الخروج معه لجهاد قتالى: «أحىٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد». ومن ذلك أيضًا ما رُوى عن النبى أنه قال لقوم قدِموا عليه من قتال: «قَدِمتم خير مَقدَم، من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر ؟ قال: مجاهدة العبد هواه». ومع أنه فى صحة الحديث مقال، فإن ما يعنينا هنا أن مغالبة النفس وكبح جماح هواها، والجد فى طلب الرزق وسائر ميادين الحياة، إنما هو من الجهاد فى كلام العرب، وعليه، فإن ميادين الجهاد ليست كلها قتالية، وإنما أكثرها تنموية إنتاجية لا سلاح فيها ولا دماء. أما الجهاد الذى يعنى قتال العدو، فهو أحد أنواع الجهاد وليس مرادفه، وهو مشروع بلا ريب، ونصوصه معلومة جلية فى كتاب الله وفى سنة رسوله القولية والفعلية، وكتب التاريخ والسير مليئة بسرد المعارك القتالية للنبى وصحابته مع المعادين للإسلام والمسلمين التى لا يخطئها عوام المسلمين فضلًا عن علمائهم. وللعلماء جهد كبير فى بيان حقيقة الجهاد وتفصيل مسائله بما يضيق المقام عن عرضها هنا. والمتتبع لتاريخنا الإسلامى الواقعى يدرك أن الجهاد القتالى هو جهاد دفع للمعتدى وليس جهاد طلب، وهو ما نطق به كتاب ربنا فى قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، كما أن آيات القتال التى يسمونها بآيات السيف إذا ما تأملتها بإنصاف وموضوعية وتجرد تجدها فى سياق قتال للمسلمين، وقد سبق بيان ذلك فى مقال سابق خُصص لهذا الموضوع.
 
ومع أن الجهاد فى وقائع التاريخ الإسلامى جهاد دفع للمعتدين وليس جهاد اعتداء على المخالفين فى الدين، ناهيك بجهاد الاعتداء على المخالفين فى الفكر والمذهب، فإن هناك ما يرجى معه منع هذا النوع من القتال وتحقيق السلام حتى بعد استعداد الجيوش للقتال، بل حتى بعد نشوب القتال، حيث يقول تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)، فعرض السلام على مَن ناصبونا العداء مشروع إن كان يرجى قبولهم له وتحقيقه فعلا، ومن السلام قبولهم للإسلام، أو دخولهم معنا فى معاهدات سلام مؤبدة أو مؤقتة، وإن لم يقبلوا وكانت الحرب، فأخلاقيات القتال فى الإسلام لا مثيل لها فى ديانات سماوية ولا فى قوانين دولية ولا مواثيق أممية، فلا قتال لغير المقاتلين، ولا قتل للنساء ولا للأطفال ولا للحيوان... إلخ، بل إنه متى قبِل المقاتلون السلام فى أى مرحلة من القتال، فإن الإسلام أوجب الكف عنهم فى الحال. وعليه، فإنه إذا كان هذا الميدان الضيق من الجهاد الذى هو جهاد الدفع مضبوطًا بكل هذه الضوابط التى تجعل وقوعه قد لا يحدث قرونًا من الزمان، فكيف تحول الجهاد من معناه الشامل الواسع الذى ذكرناه آنفًا إلى هذا المعنى الضيق المتمثل فى القتال ليس غير؟! وكيف تحول مقصوده من دفع المعتدين ورد شرورهم إلى قتال الآخر المختلف فى الدين والفكر والمذهب؟! وأى فائدة تعود على إسلامنا–الذى يدعى هؤلاء المتطرفون رفع رايته–من تحريف معنى الجهاد وجعله لا ينفك عن القتل والدم؟!









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة