قد يُدهش بعض القراء من العنوان الذى حملته مقالتى هذه، فمتى كان الإرهاب مقبولًا أو معقولًا لفظًا أو فكرًا أو سلوكًا حتى يكون مفترى عليه؟! ولا شك أننى لا أعنى بالإرهاب هنا ذاك المعنى البغيض الذى يتبادر إلى الذهن عند إطلاقه، أو ما يظهر من سلوك فئة ضالة مفسدة فى الأرض محاربة لله ورسوله، تُروِّع الآمنين وتهلك الحرث والنسل وتخرب الممتلكات العامة والخاصة، وغير ذلك من أفعال لا يقرها دين صحيح ولا يقبلها عقل سليم ولا تستسيغها فطرة سوية، مما يجعل مجرد إطلاق اللفظ–وإن لم يرتبط بواقعة اعتداء خسيسة كتلك التى تقع بحق رجالنا البواسل من قوات الجيش والشرطة أو بحق إخواننا شركاء الوطن–تقشعر منه الأبدان، وتشمئز منه النفوس، وتغلى منه الدماء فى العروق غيظًا وأسى على تلك الجهالة والضلالة التى أعمت قلوب هؤلاء المجرمين قبل أبصارهم. وقد قلنا- ونكرر- إن منهج الجماعات المتطرفة يحتوى على كثير من المغالطات، بل إنهم لا يستندون إلى أدلة صحيحة أو فهم سليم للنصوص، فتجدهم يتذرعون بتأويلات فاسدة ومفاهيم مغلوطة يسيطرون بها على أفكار الشباب وعقولهم، ومن أهم آلياتهم فى ذلك تحريف المصطلحات وإلباسها ثوبًا يختلف تمامًا عن معناها الصحيح.
ومن المصطلحات التى حُصِرت فى مفهوم ضيِّق وأُريد بها غير ما وضعت له مصطلح (الإرهاب) الذى هو فى حقيقته مفترى عليه، كما افتُرى على مصطلح الجهاد والخلافة وغيرهما مما حرفته تلك الجماعات المجرمة، وفسَّرته بما يخدم ويحقق أهدافها الخبيثة، فلفظ الإرهاب مذكور فى كتاب الله تعالى مرة واحدة، والسياق القرآنى الذى وردت فيه هذه الكلمة لا يتطابق مع ذلك المعنى الحصرى البغيض الذى أصبح لصيقًا بهذا اللفظ فى زماننا، حيث يقول الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ»، والإرهاب المذكور فى هذه الآية الكريمة لا يعنى سوى الإخافة والزجر، أى تخوِّفون به الأعداء وتردعونهم عن مجرد التفكير فى الاعتداء عليكم، وهو ما يمنع نشوب الحروب التى يترتب عليها إزهاق الأنفس وتدمير المجتمعات، ولا يعنى أبدًا الإغارة على الأعداء أو البدء فى محاربتهم ما لم يعتدوا أو يعلنوا العدوان أولًا، وذلك انطلاقًا من أن الإسلام دين السلام والرحمة والصيانة لخلق الله تعالى جميعًا بغض النظر عن عقائدهم وأفكارهم.
وحتى تُفهم هذه الآية فهمًا أصوليًّا دقيقًا ينبغى أن ندرك أن ضابط العلاقة (الحربية) بين المسلمين وغيرهم هو قول الله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ»، ومن يتأمل هذه الآية ويتدبر المقصود منها يدرك أن شريعتنا الغراء بلغت الغاية فى الإنسانية والرقى حتى فى حال الحرب، فلن تجد نصًّا تشريعيًّا ولا مبدأ عسكريًّا فى العالم كله يلزم أتباعه بتقوى الله فى الحرب! ويمكن تقريب معنى التخويف والردع المفهوم من لفظ (الإرهاب) المذكور فى الآية محل النقاش إذا ما تأملنا مشهد الدول التى تمتلك السلاح النووى المحظور دوليًّا والذى تسعى الهيئات الأممية المعنية إلى منع امتلاكه وانتشاره، فهذا السلاح اللعين المسمى (سلاح الردع) هو مصدر إرهاب- بمعنى التخويف- لكل مَن لا يمتلكه، وحتى الدول التى تمتلكه تخشى أن تمتلكه دول أخرى معادية لها، وتحرص كل الحرص على أن تبقى وحدها مصدر (الإرهاب) فى العالم!
ولو نظرنا إلى العمليات العسكرية التى تخوضها الجيوش المتحاربة لوجدنا أنها قد توقع من القتلى أكثر مما توقعه العمليات الإرهابية، ولكنها عمليات شبه منظمة، حيث تكون بين دول معلومة، وفى بقعة جغرافية محددة، ويكون لها أسبابها–وإن كانت غير منطقية فى غالب الأحيان–وهى غالبًا ما تنتهى بالسلام بين أطرافها، خلافًا لتلك العمليات التى يمارسها هؤلاء المجرمون، فهى أشبه بحرب العصابات السرطانية التى لا تنحصر فى بقعة جغرافية بعينها.
والإخافة فى الشريعة ليست مذمومة فى جميع حالاتها، بل هى مطلوبة فى مواضع كثيرة، فـ(الإرهاب) الوارد فى الآية السابقة هو لفظ جالب للسلام من دون قتال كما أسلفت، فإذا علم عدوُّنا مدى قوتنا وتيقن من عدم قدرته على هزيمتنا، امتنع عن قتالنا، فيعم السلام بيننا وبينه، والفضل كل الفضل يرجع لـ(الإرهاب) الذى أوقعناه فى صدور أعدائنا، وهذا هو ما أشار إليه رسولنا الكريم عندما عدَّد ما فُضِّل به على غيره من الأنبياء، إذ قال، صلى الله عليه وسلم: «نُصِرتُ بالرعب». وقد كان الخوف مِنَّةً مَنَّ الله بها على عباده المؤمنين، إذ ألقاه فى قلوب أعدائهم، وألقى الطمأنينة فى قلوب المؤمنين فكان النصر من عند الله، يقول تعالى: «إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ».
وفى السياق نفسه، فإن بعض الناس ينظر إلى العقوبات والحدود الواردة فى شرعنا الحنيف على أنها قاسية، وربما قال بعضهم إنها تتنافى مع الآدمية، وهذه النظرة لا تصدر إلا من أعور الرأى إن لم يكن أعور العين، فالحدود والعقوبات والتعزيرات وُضِعت لتهذيب المخالفين ومنع أذاهم وشرهم من ناحية، ومن ناحية أخرى لصيانة المجتمع بكامله، فالقتل قصاصًا أنفى للقتل عدوانًا، يقول الله تعالى: «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، أى إن الذى يفكر فى قتل غيره إذا علم أنه إنْ قَتَل عدوانًا قُتِل قِصاصًا، خاف على نفسه فامتنع عن قتل ما كان ينوى قتله، وعندئذ يحيا الاثنان معًا–مَن كان سيَقتُل ومَن كان سيُقتَل- وما ذاك إلا بفضل الخوف من القِصاص، وكذا سائر العقوبات، فهى لتخويف مَن يفكرون فى ارتكاب الجرائم التى تقتضيها.
ومن خلال ما سبق، يتبين أن (الإرهاب) بالمعنى الذى نقصده فى هذه المقالة وهو التخويف، يمكن أن يكون جالبا للسلام مانعًا من نشوب الحرب أصلا، وهو رادع ومانع من ارتكاب الجرائم بالتخويف الكامن فى العقوبات، كما أنه يُعجِّل بالنصر على عدونا وينهى الحرب إذا ما نشبت بما يقع فى قلوبهم من خوف ورعب. ولا جدال فى أن هذا المعنى الأصلى للإرهاب ليس معيبًا ولا ضارًّا، بل هو نافع ومانع للضرر، أو مقلل له على أقل تقدير، لكن الذى جعل اللفظ مفزعًا وشرًّا محضًا فى نفوس الناس هو جماعات الشر التى عاثت فى الأرض فسادًا، وغلب اللفظ على أفعالهم، ووُصفت به عملياتهم الخسيسة، وهؤلاء وردت عقوباتهم فى الشريعة الإسلامية حائزة على المرتبة الأولى بين العقوبات شدةً وقسوةً، حيث تعرف بالعقوبات المغلظة، وهى الواردة فى قول الله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ». وإنما كان إرهاب هؤلاء معاقَبًا عليه بهذه العقوبات الشديدة، لأن إرهابهم هو إرهاب قتل وتدمير وتخريب محض، أما الإرهاب المفهوم من الآية الكريمة فلا يعدو كونه تخويفًا وردعًا للأعداء، وهو بلا شك إرهاب محمود لا ضرر فيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة