ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمُتْ
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
أمل دنقل فى رثاء صديقه يحيى الطاهر عبدالله
مرت منذ أيام ذكرى رحيل الكاتب يحيى الطاهر عبدالله الذى وافته المنية إثر حادث سيارة على طريق الواحات فى التاسع من إبريل عام 1981، وإحياءا لذكراه أكتب هنا اليوم لقاءا جمعنى بأسماء ابنته بعد مجموعة مقالات كتبتها عن أعماله الأدبية، فطلبت لقاءها بحثا عن ذكريات خاصة تحكيها لى عنه، أو ربما رغبة منى فقط فى مقابلة أسماء التى ارتبط رثاء "يحيى" دائما باسمها، ورغم تأكيدها أنها لا تملك كثير من الذكريات الخاصة بها فوقت الحادث كان عمرها خمس سنوات فقط، إلا أنها رحبت باللقاء.
كان طبيعيا أن يدور الحديث فى فلك يحيى الطاهر عبدالله بالطبع، وذكرياتها المباشرة عنه أو تلك التى رويت لها من أصدقائه. ولكن البداية اختلفت قليلا، فى البداية فاجأنى الشبه الكبير بين أسماء والسيدة عطيات الأبنودى زوجة عبدالرحمن الأبنودى السابقة، ومن لا يعرف قصة تبنى السيدة عطيات لأسماء ورعايتها لها بعد وفاة يحيى يظن أن أسماء ابنتها بالفعل بفضل الشبه الكبير بينهما.
ابتسمت وقالت بالفعل أشبهها جدا، ولا أعرف سر هذا التشابه.. ربما لطول العشرة بيننا. وتدفقت الذكريات عن عطيات المرأة التى دخلت حياة الأبنودى بإذن من يحيى الطاهر عبدالله، وحكت أسماء عن بداية تعارف يحيى بعطيات الأبنودى قائلة:
" اتفق عبدالرحمن وعطيات على الزواج، ولكنه أخبرها أن الزواج لن يتم إلا إذا وافق عليها يحيى، فرتب لقاء بينهما للتعارف ليقرر يحيى مصير تلك الزيجة المرتقبة.. وبعد اللقاء قال لها يحيى: "أنا مبسوط منك.. يا إما تتجوزينى يا تتجوزى عبدالرحمن، فابتسمت عطيات وقالت: أنا جاية أقابلك عشان عايزة أتجوز عبدالرحمن.. فرد يحيى: يبقى من هنا ورايح أنت بقيتى "خيتى" ليعلن بذلك قبوله طرف جديد فى علاقة الصداقة التى تجمعه بالأبنودى. وأضافت أسماء: "بابا عاش معاهم فترة لكن كان عنده تحفظات بسبب خلفياته الأيدلوجية.. بابا كان يسارى فكان يعترض على رغبة عطيات فى تطوير حياتها كسيدة للمنزل، وسعيها لتوفير سبل حياة مريحة، فكانت من وجهة نظره تحول عبدالرحمن لكائن برجوازى رأسمالى لديه تطلعات طبقية بينما هو المفروض رجل يسارى.. صحيح هى كانت بتحب يحيى، ومؤمنة بموهبته لكنهما لم يتفقا ومشى فى النهاية وترك منزل الأبنودى."
خلافات يحيى والسيدة عطيات أعادتنى إلى علاقة يحيى بالمرأة فى عالم الأدب، فأحد السمات المميزة لأدب يحيى هى غياب المرأة بشكل كبير عن أعماله أو حضور باهت يتمثل فى صور نمطية بين انتهازية فتاة المدينة التى تبحث عن الثراء السريع بالزواج من عجوز ثرى، أو الفتاة الطيبة الساذجة فى الجنوب.
كان الخلاف بين السيدة عطيات ويحيى مدخلا للحديث عن المرأة فى حياة يحيى الشخصية وهل كان غيابها فى الأدب انعكاسا لغيابها فى الواقع؟
فأجابت أسماء: لا أعرف تفاصيل عن الجانب العاطفى من حياته قبل الزواج من أمى، لكنه كان مرتبط بأمه جدا، وتسميت على اسمها يمكن هذا يفسر سر ارتباطه الشديد بى، فكان يحملنى على كتفيه ويلف بى شوارع القاهرة، تلك الصورة لى معه محفورة فى ذاكرتى لا تغيب عنى"
فقلت لها أن عبلة الروينى سجلت اعتراضها كثيرا على تلك الجولات، فابتسمت وقالت: بحكم العقل والمنطق كان يجب أن تعترض على اصطحاب طفلة إلى البارات والمقاهى والسهر حتى الفجر، فتلك حياة لا تليق بالأطفال، لكنها كانت حياة أبى وكان يريدنى دائما معه.. وكأنه كان يشعر أن عمره قصير فكان يريد أن يقضى أكبر وقتا ممكنا معى.
مثلث الجنوب القنائى تلك العلاقة التى ترسخت فى أذهان كثيرين عن صداقة الثلاثى (عبدالرحمن- يحيى- أمل) ربما اختفى فى طياتها الحديث عن علاقات الصداقة فى حياة يحيى بعيدا عن ذلك الثنائى، فكان سؤالى لأسماء عن صداقات يحيى الأخرى فى القاهرة، فقالت:
"بابا ارتبط بصداقات كثيرة خاصة فى مجتمع وسط البلد بكل حالة الصخب الثقافى التى كان يمثلها فى تلك الفترة، فمثلا كانت علاقته قوية بالشاعرين عمرو الصاوى ورجب الصاوى وأقام معهم فى بيت العائلة لفترة، حتى بعد زواجه كثيرا ما تررد على بيتهم، وفى فترة اعتقالات الأدباء والمثقفين كان يحيى من المطلوبين وقتها، فاختبأ لفترة فى بيت صديقه أحمد الخميسى.
وعلاقة صداقة أخرى أو ربما توافق روحى جمعته بالشاعر نجيب سرور على مقاهى وسط البلد، حتى أن الناقد كمال رمزى كثيرا ما حكى لى عن مقالبهم فى بعض الأصدقاء، وابتسمت قائلة: أبويا هو نفسه إسكافى المودة هو نفس الشخصية بكل قدرته على التحايل على الحياة وتدبير المقالب، لما كتب إسكافى المودة كان بيكتب قصته هو وأيامه فى مصر القديمة بعد زواجه فى غرفة صغيرة خلف مسجد عمرو بن العاص.
نجاح يحيى فى تأسيس أسرة كان تحديا لطبيعة شخصيته، انتصارا على طبيعته المتمردة انتصارا قابله الفشل فى احتفاظه بوظيفة، فالجانب المتمرد من يحيى الذى رضخ –جزأيا- لمؤسسة الزواج لم يقبل أن يقدم تضحيات أخرى، ربما لقناعة أكبر لدى يحيى أن الوظيفة الميرى تقتل الموهبة، تقتل الحس الفنى لدى المبدع تلك الرؤية التى صاغها ببراعة فى قصصه عندما قدم شخصية الموظف، فردت أسماء أنها تتفق مع وجهة نظره تماما قائلة:
"قليلون من يستطيعون الحفاظ على روحهم الفنية فى الوظيفة الإدارية، هذا ما عبر عنه يحيى بالضبط عندما قدم شخصية الموظف فى قصصه. الواقع عندما يدخل شخص من خلفية ثقافية وفنية لمنصب إدارى يغرق بعد فترة فى تفاصيل الوظيفة ويصبح كل همه "تستيف الورق" فقط، وتختفى الأهداف الثقافية والفنية الكبيرة، فقليل جدا من يستطيع الحفاظ على روحه الفنية مع عمله الإدارى.
أبويا كان رافض الاعتراف بالأشكال التنظيمية التقليدية للدولة، مثلا كان يرفض يشيل بطاقة، كان ماشى بورقة من جورنال كاتب عنه، فلما ضابط يسأله عن هويته يطلع له الجورنال ويشير لصورته: أنا فلان اللى كاتبين عنه فى الجورنال."
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة