تراقب إيران عن بعد التقارب الإيجابى الذى يتزايد يومًا وراء الآخر بين واشنطن وبيونج يانج، لإنهاء حقبة من التوتر والتهديد المتبادل بين البلدين على خلفية سعى كوريا الجنوبية لامتلاك برنامج نووى، وهو ما اعترضت عليه واشنطن وحلفاؤها فى منطقة جنوب شرق آسيا، لكن الأيام الأخيرة شهدت العديد من التطورات ترتب عليها الاتفاق على عقد لقاء قمة بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ونطيره الكورى الشمالى، والكشف عن لقاء سرى جمعهما.
إيران التى تواجه رفضًا من جانب إدارة ترامب للاتفاق النووى الذى وقعته إدارة باراك أوباما والدول الخمس الأخرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا مع طهران، تحاول أن تستغل الانفراجة فى الملف الكورى الشمالى لتصعيد موقفها فى مواجهة واشنطن، أو بمعنى أحرى أكثر دبلوماسية، فإنها تناور بالتصريحات تارة، وبإثارة مخاوف الدول الأوروبية تارة أخرى، والهدف واضح، وهو أن تضغط على إدارة ترامب لكى توقف كل خططها للتخلى عن الاتفاق النووى الموقع فى 2015، خاصة أن ترامب حدد 12 مايو موعدًا نهائيًا للأوروبيين «لتصحيح» الاتفاق الذى يحد من البرنامج النووى الإيرانى مقابل تخفيف العقوبات المالية.
قبل أيام خرج وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف، بلهجة معتادة من المسؤولين الإيرانيين، وقال إنّ بلاده مستعدة لاستئناف تخصيب اليورانيوم بـ«قوة» إذا تخلت الولايات المتحدة عن الاتفاق النووى، وأن هناك «إجراءات صارمة» أخرى يجرى البحث بها إذا ما حصل ذلك، وزيادة فى المناورة قال ظريف خلال تواجده فى نيويورك لحضور اجتماع للأمم المتحدة حول السلام المستدام، إنّ إيران لا تسعى إلى امتلاك قنبلة نووية لكنّ رد طهران «المحتمل» على تخلى واشنطن عن الاتفاق هو إعادة إنتاج اليورانيوم المخصب الذى يشكل عنصرًا أساسيًا فى صنع قنبلة ذرية.
ما قاله ظريف فى نيويورك جاء متسقًا مع خطة إيرانية للتصعيد بدأها الرئيس حسن روحانى الذى قال إن الولايات المتحدة «ستندم» إذا انسحبت من الاتفاق، وأن طهران ستردّ فى «أقل من أسبوع» إذا حصل ذلك.
تأمل إيران أن تلقى مساعدة أوروبية فى إقناع ترامب بإنقاذ الاتفاق، لكنها تريد ذلك دون مقابل، لأنها ترفض ربط هذا الملف بتدخلاتها السلبية فى عدد من الملفات الإقليمية، خاصة فى اليمن وسوريا ولبنان، فى حين أن المنطقى والمعقول يقول إن الأمور كلها مترابطة ولا انفصال بينها، التوصل لاتفاق حول البرنامج النووى كان الهدف منه أساسًا أن تنخرط إيران بقوة فى حوارات جادة حول أمن المنطقة ومستقبلها، وأن تنسحب طهران تدريجيًا من الملفات الإقليمية المتورطة بها، وهو ما أوضحته الدول الست التى وقعت على الاتفاق مع إيران حينما أبدت دول بالمنطقة خاصة الخليجية مخاوفها من أن يتسبب هذا الاتفاق فى تزايد النفوذ الإيرانى فى المنطقة، حيث قالت الدول الست إنها منخرطة فى نقاش موسع مع النظام الإيرانى حول جميع الملفات وليس فقط النووى، لكن من الواضح أن طهران كانت تناور ولا تزال تناور، فهى تريد أن تحقق مكاسب لها فقط من اتفاقها مع الدول الست الكبرى، وترفض أن ترضخ لأية مطالب تتعلق بالملفات الإقليمية، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا.
المناورة الإيرانية مع واشنطن لا تقتصر فقط على الملف النووى، بل أنها تستخدم جميع الأوراق لتحقق المكاسب التى تخطط لها، وأقصد هنا تحديدًا ملف المعتقلين الأمريكيين الخمسة فى إيران، بينهم باقر نمازى البالغ الحادية والثمانين والذى يواجه تدهورًا فى حالته الصحية، فطهران أعادت فتح هذا الموضوع وطرحته كورقة تفاوض جديدة مع إدارة ترامب، وهو ما نفهمه مما قاله محمد جواد ظريف إن طهران منفتحة على إجراء مفاوضات لمبادلة سجناء مع الولايات المتحدة إذا ما أظهرت إدارة ترامب «تغييرًا فى موقفها»، ولم يحدد مفهومه لهذا التغيير، وأن كان حديثه مرة أخرى عن وجود «عدد كبير» من السجناء الإيرانيين المحتجزين فى الولايات المتحدة، أو فى مكان آخر بناءً على طلب واشنطن «بمن فيهم امرأة اضطرت للولادة داخل سجن أسترالى بسبب طلب تسليم أمريكى»، يؤكد أن طهران تلمح لإمكانية إجراء صفقة تبادل للسجناء مع واشنطن.
فى المجمل فإن طهران لا تريد أن تمرر المفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية دون أن تحقق مكاسب لها، فهى تروج الآن أنها سبقت بيونج يانج فى التعامل بجدية مع المشاغل الدولية الخاصة بالنووى، وبالتالى فهى أحق أن تحظى بتعامل أفضل خاصة من إدارة ترامب، وهو قول به كثير من الكذب والتضليل، لأن طهران استفادت من الاتفاق النووى فى توسيع نفوذها الإقليمى، وحان الوقت لكى تعيد الدول الكبرى موقفها من هذا الاتفاق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة