عقدت جمعية النهضة العلمية والثقافية، صالونها عن الشاعر والقديس المنسى عبدالرحمن الخميسى، الأسبوع الماضى، حضره لفيف من المثقفين، وتحدث عنه الابن والقاص والمترجم أحمد الخميسى، مؤكدًا على أن والده عظيم، ليس فقط بأعماله الشعرية والصحفية والقصصية والمسرحية، ولا من أجل اكتشافه للفنانين سعاد حسنى ولا محرم فؤاد وعادل إمام وشمس البارودى وغيرهم، ولا اكتشافه أيضًا للكاتب الكبير يوسف إدريس، ولكن لأن حياته كلها دليل على استقلال الكاتب عن السلطة والمال، وعن تولى المناصب، وأضاف: «المؤسف أنه بعد رحيل تلاميذه ربما لن يتذكره أحد كغيره من المبدعين العظام ولم تهتم وزارة الثقافة منذ رحيله 1987 وحتى الآن بإعادة نشر أعماله، ولأن أحباءه ربما عن فشل أو كسل لم يخلدوا اسمه بجائزة أو هيئة تهتم بأعماله ونشرها للأجيال المقبلة.. أو البحث عن دار نشر تتيح أعماله، واستطرد أن والده أوصى أن لا يغطّى وجهه حين يتوفى، كما جرت العادة، كما أوصى بزرع شجرة فوق قبره حتى تجتذب إليها الطيور فتؤنسه فى وحدته، مشيرًا إلى أنه كان يعيد تشكيل المأساة على نحو فكاهى يحد من مدى قسوتها، وأكمل: أن والده الكاتب الراحل عبدالرحمن الخميسى كان محبًا للحياة برغم الصعوبات الكثيرة التى واجهته فى مسيرته الطويلة، وعلى رأسها تجربة الاعتقال.
أما الناقد سامح سامى، فقال إن الراحل عبدالرحمن الخميسى، يُعد آخر الرجال الموسوعيين فى الثقافة المصرية، وهى سمة ذات خصوصية، ربما يظهر مستقبلًا مسؤول ثقافى رسمى أو فى جمعية أهلية يعيد النظر ويهتم بأعمال الكتاب العظام وبيان طريقتهم العظيمة فى الاستغناء والإبداع بعيدًا عن الفساد. كما أن الراحل كان يرفض التكريم باستمرار، حتى من رؤساء لبعض الدول المجاورة، حتى لا يعد محسوبًا على أحد، فقد كان الفن لديه هدفًا فى ذاته.
عرضت الندوة رؤية الناقد والمفكر العظيم لويس عوض للشاعر عبدالرحمن الخميسى، وتطرقت لمقال له بعنوان «عبدالرحمن الخميسى.. شاعرًا ديوان «أشواق إنسان» وفيه يقول: صدر ديوان للأستاذ عبدالرحمن الخميسى بعنوان «أشواق إنسان» وهذا الديوان يشمل نماذج من شعره الذى نظمه طوال عشرين سنة، من 1938 إلى 1958 ولما جاءتنى نسخة من هذا الديوان فرحت بها أشد الفرح، فقد كنت ألتقى بالأستاذ الخميسى فى الأعوام الماضية، وأرجوه أن يجمع شعره المتفرق فى كتاب يتيح للقراء الاستمتاع به، ويتيح للنقاد دراسته وتحليله، ولأمر ما، كان الأستاذ الخميسى يؤثر أن يبقى شعره متفرقًا، فلم يصدر له ديوان منذ أن بدأ ينظم الشعر، أى منذ أكثر من عشرين سنة ولكنه اقتنع أخيرًا بجمع بعض أشعاره، فأهدى إلينا باقة صغيرة أكثرها من أجمل شعره ولقد كنت أتمنى أن تكون باقته لنا كبيرة فأنا أعلم أن للأستاذ الخميسى شعرًا آخر لا يقل جمالًا عما نشره فى ديوانه من قصائد.
وليس معنى هذا أن الأستاذ الخميسى شاعر غزير الإنتاج فهو شاعر مقل مسرف فى الإقلال. ولعل إقلاله من أنه شاعر مفطور لا يصنع الشعر ولا يقوله إلا إذا، اضطربت به نفسه، ففاضت به فطرته، حتى لم يعد يطيق السكوت. وليس معنى هذا أن نفس الخميسى لا تهتز لشعر الحياة إلا نادرًا. فأنا أعرف الخميسى، وهو صديقى من عشرين سنة أو نحوها، وأعرف عنه أنه نفسه قطعة حية منشعر الحياة، وأن حياته ذاتها قصيدة عصماء، كثيرة الألوان، ترق أحيانًا وتصفو كأنها الغدير الأزرق الرقراق، وتهدر أحيانًا كأنها البركان قاذف الحمم.
فقلبه آنا كتلك القيثارة التى وردت فى كلام «شلى» عن الشعراء فى دفاعه عن الشعر، تمر عليها نسمات «أيول» ملك الريح بأنامل خفية فتوقع عليها أعذب الإيقاع، أو كذلك العود المعلق الذى ذكره الشاعر «بيرانجيه»، ما أن تمسه اليد حتى يجيش بالأنغام وقلبه آنا صاخب ملهب يلغط لغط المحموم، ويتدفق من صمامه دم الحياة الساخن بالأفراح والآلام فتصطبغ به المشاعر والأفكار.
فحياة عبدالرحمن الخميسى إذن حياة شاعرة، ولأن الخميسى يحيا شعره فهو ليس بحاجة إلى كتابته وهذا فى ظنى هو سبب قلة إنتاجه فهو لا ينظم الشعر إلا إذا اجتاحته عاصفة هوجاء من الألم أو الرجاء أو تلك الأشواق الإنسانية الكثيرة التى يحدثنا عنها فى شعره.
والخميسى صادق حين يقول لقارئه: «هذا الديوان.. كل قصيدة فيه مسقية من وجدانى، مورقة برحيق ألمى أو أملى، بدموع يأسى أو فرحى، متوردة بدمى!».
فإذا أردت أن تعرف ما أشواق هذا الشاعر، أو أشواق هذا الإنسان، وكيف عبر عن أشواقه، وأى لغة اختارها لهذا التعبير، وإلى أى حد نجح فى مضمون الشعر وصياغته معًا، وكل هذه الأسئلة التى ينبغى أن تجيب عليها بنفسك أولًا، وتستمع منها إلى رأى النقاد ثانيًا: قلت لك: إن أول ما آراه فى شعر الخميسى هو تطوره الواضح من الوجدان الخاص إلى الوجدان العام فقصائده الأولى المنظومة عام 1938 و1939 قصائد غنائية، تتغنى بالحب الشقى والحب السعيد، وتعبر عما فى القلب من أشواق مجنحة إلى الحياة، فى الحقيقة، وفى الخيال، وفى الحس، وفى الرؤى، بل أشواق مجنحة الآلام والجراح، وإلى البلسم الشافى الذى يطيب الآلام ويرأم الجراح إلى الحبيب البعيد، إلى عبير الربيع، إلى الليل بالأسرار الكثيرة، إلى النجم الثاقب، إلى الألم المسعور، إلى القبلة المسكنة، أو البسمة التى تجلو ظلام الحياة».