أى كاتب مسرحى لو فكر فى كتابة عمل عن ديكتاتور معاصر لن يجد أفضل من الشخصية الأردوغانية لتقديمها بلحمها وشحمها وزفارتها على المسرح، فأردوغان، للحق، ممثل من طراز رفيع وكوميديان كبير، فضلا عن أنه يجيد اللعب بالبيضة والحجر، ويرى السياسة فنا من فنون الحواة يقتضى التلون والتحول والكذب طوال الوقت، وهذه السمات الشخصية تمنحه كاريزما كاذبة تنطلى على البسطاء والحالمين باستعادة مجد تركيا الغابر فى أوروبا الذى تغذيه الدراما التركية بنوعية مسلسلات مثل «حريم السلطان».
أردوغان الذى يسير وفق منهج مدروس لاستعادة الخلافة العثمانية على الأرض، يرى أن فرصته تقوم على البروباجاندا الفاشية، كأن يروج لتحرير القدس عن طريق احتلال عفرين السورية، وهو يرى أنه المؤهل لإنجاز حلم استعادة الخلافة المغدورة، أولا بالانقلاب على إرث العلمانية الأتاتوركية التى حولت تركيا من دولة متخلفة فى كل شىء وضعيفة لدرجة وصفها برجل أوروبا المريض إلى دولة تسير على طريق الحداثة والعصرية والتقدم، فكان انقلابه على القيم العلمانية بتغيير الدستور والقفز من مقعد رئيس الوزراء إلى مقعد الرئيس مع منح رئيس الجمهورية صلاحيات غير محدودة.
الأمر الثانى الذى يعتمده أردوغان، هو استغلال مساحة الحركة الممنوحة له من واشنطن ضمن مشروع الفوضى الخلاقة، للتوسع فى سوريا والعراق بدعوى تأمين الحدود التركية ومواجهة المسلحين الأكراد، ومع عدوانه على الأراضى السورية والعراقية، فى ظل انشغال الدولتين بمحاربة الفصائل الإرهابية، يعيد أردوغان تقديم نفسه باعتباره القوى الأكبر فى المنطقة، كما يحول عدوانه على الأراضى السورية والعراقية إلى نوع من الاستعراض العسكرى والتباهى المفرط بالقوة، ملهبا بذلك مشاعر القوميين والبسطاء الأتراك بأن أنقرة تحولت إلى دولة عظمى فى يوم وليلة.
الأمر الثالث، أن أردوغان وفى سبيل بناء شعبيته المتداعية داخليا، يستخدم القضية الفلسطينية للهجوم المستمر على إسرائيل والغرب، فهو يوزع شتائمه وتجاوزاته على نتنياهو وميركل وماكرون وحتى الإدارة الأمريكية نفسها التى تعطيه الأوامر وخريطة التحركات، ليصور نفسه حامى حمى القدس وراعى القضية الفلسطينية، بينما الحقيقة أنه جبان ورعديد، ولا يستطيع إطلاق رصاصة واحدة على تل أبيب، حتى عندما أهانته إسرائيل إهانة بالغة وقصفت سفينة الحرية التركية المتجهة لغزة وقتلت وأصابت عددا من الأتراك، لم يجرؤ السلطان المزيف على الرد بالمثل ولم يوقف التعاون الاقتصادى والعسكرى مع نتانياهو، بل زاد معدل التعاون بين أنقرة وتل أبيب أضعافا مضاعفة.
يراهن أردوغان إذن على بسطاء الأتراك وهو يقترب من انتخابات وشيكة، فليس مهما النزيف السياسى والاقتصادى لتركيا، وليس مهما النفقات الباهظة للحروب الاستعراضية التى يخوضها، وليس مهما صورته فى الخارج كشخص مخبول وغير مسؤول وشبه معزول أوروبيا، المهم وما يسعى إليه أردوغان أن يحظى بالدعم الشعبوى لفترة رئاسية جديدة، حتى يتمكن من كسب الوقت لتحقيق حلمه باستعادة الخلافة العثمانية الغابرة باحتلال مزيد من الأراضى السورية والعراقية.
لكن ما يجهله أردوغان وما لا يريد تصديقه أن الظروف التى سمحت بتمدده وتضخمه وتوليه أمور المخرج المنفذ لمشروع الفوضى الخلاقة خلال السنوات الخمس الأخيرة قد انتهت، وأننا بصدد مرحلة ما بعد مشروع الفوضى الأمريكية، وهذه المرحلة تعيد الاعتبار للدول العربية المتماسكة وذات السيادة وتقضى على عصابات الإرهاب وميليشيات التطرف وعصابات المرتزقة الدولية، ولن يجد أردوغان فى هذه الحالة إلى أن يلتزم حدوده الجغرافية والعسكرية والسياسية أو يناله الأذى البالغ، كما لن يجد أمامه إلا أن يلتزم الأدب مع جيرانه أو سيتعرض هو ونظامه لمزيد من العزلة والإحراج الدوليين، وقد تتعرض تركيا نفسها لعقوبات اقتصادية وسياسية، بسبب طول لسان رئيسها، والأيام بيننا أيها المهرج.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة