وأنا مراهقة على أعتاب السابعة عشرة من عمرى، وقفت أمام باب مكتبه بكلية الطب بجامعة طنطا، لم أتعلم حرفًا عن الصحافة بعد، لم ألتحق بعمل فى مؤسسة مرموقة، ولا أحمل حتى جهاز تسجيل، أحمل فقط الكثير من الانبهار والمحبة وورقة فلوسكاب طويلة مسودة بعشرات الأسئلة الساذجة التى احتملها جميعًا بصبر ووافق على إجراء أول مقابلة صحفية فى حياتى، كان مصيرها النشر على منتدى على الإنترنت.
فتح لى باب مكتبه واستقبلنى برحابة صدر أربكتنى، ألجمتنى الصدمة لدقائق، أنا الآن أجلس أمام د. أحمد خالد توفيق، صاحب سلسلة ما وراء الطبيعة وفانتازيا وعشرات الروايات المترجمة، صاحب الكتابات التى رسمت شخصيتى، الذى تعلمت على يديه الحياة، وتعلمت على طريقته الحب، وصحبنى من تلك البلدة الصغيرة قرب طنطا إلى كل بلاد العالم. ارتبكت وأنا أقرأ الأسئلة وهو يجيبها ببساطة، أرفض أن أنشغل بكتابة الإجابات وتنطبع فورًا فى رأسى.
بعد انتهاء الحوار الطويل الملىء بالأسئلة الساذجة، يتصفح بصبر دفتر خواطرى المراهقة، رغم أن عشرات من الدفاتر المشابهة مرت به، ورغم سذاجة ما دونته فيه يقرأ باهتمام ويشجعنى، يختار بيتى شعر كتبتهما ويبدى إعجابًا حقيقيًا بهما ويطلب أن أرسلهما له لأنه يرى فيهما وصفًا لابنته.
منحنى يومها، قبل 10 سنوات من الآن، أكبر جرعة ممكنة من الفرحة الحقيقية والسعادة والدعم، ولم يحتج على نشر حوار مع كاتب بقيمته على منتدى مجهول بالإنترنت. عشقت لأجل مثل هذا اليوم الصحافة التى تصورت أنها تفتح أمامى الأبواب ولم أكن أعلم وقتها أن بابه مفتوح على اتساعه للجميع، كقلبه، ولهذا سكن قلوبنا.
***
وداعًا أيها الغريب.. كانت زيارتك رقصة من رقصات الظل.. قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس.. لحنا سمعناه لثوان هناك من الدغل ثم هززنا الرؤوس وقلنا أننا توهمناه
***
بالبساطة والتواضع نفسهما يلتقى بمحبيه فى كافيه متواضع فى طنطا، تتسع شهرته للأفق ولا يتخلى أبدًا عن ملامح شخصيته التى انطبعت فى بطله الأشهر "رفعت إسماعيل" متواضع منطوِ لا يحب الكثير من الضجيج حوله ويخجل من الإطراء عليه مهما كان بسيطًا.
يجلس معنا كصديق وأب بين وقتٍ وآخر، مرة فى رمضان، مرة فى احتفال بميلاده، مرة دون سبب فقط لأننا نتمنى لقائه، يتحدث بصوت خافت وتواضع جم. يحتفى بكل واحدٍ كصديق حقيقى ويمنح لكل منا جرعة مختلفة من الدعم. يمازحنا ويضحك من قلبه لدعاباتنا ولا يغادرنا إلا ونحن متخمين بمحبته.
يتغير القراء، تشغل الظروف منهم من تشغله، ويبقى على العهد من يبقى وهو كما هو، متواضع دائمًا، محب للجميع.
***
عامان مضا على كلمة النهاية فى حياة "رفعت إسماعيل" بطل سلسلته الأشهر "ما وراء الطبيعة" فى العدد الأخير من السلسلة والذى اختتمه بوفاته، ولكن محبى العجوز ذو البدلة الكحلية لم يتمكنوا بعد من استيعاب ذلك، يرفض بعضهم، وأنا منهم، قراءة العدد الأخير، نتجاهل فصل النهاية ونغمض عيوننا عنها متظاهرين بأن صديقنا العجوز الملول العصبى صاحب الانتقادات اللاذعة لا يزال حيًا والآن لا نعرف كيف نفعل الأمر نفسه مع رحيل العراب.
***
وداعًا أيها الغريب.. كانت إقامتك قصيرة.. لكنها كانت رائعة.. عسى أن تجد جنتك التى فتشت عنها كثيرا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة