"عيد الفقراء" هو الوصف الحقيقى لمشاهد حصاد القمح التى تجمع العمالة والمزارعين والأطفال سوياً وسط الزراعات، يتقاسم الجميع العمل لإخراج حبات الذهب الأصفر التى تطعم الأغنياء والفقراء، ويلتف المشاركون فى الحصاد حول جرار زراعى يثبت خلفه ماكينة حمراء يخرج منها المحصول، وبعد ساعات من العمل تمتد حتى الليل يجلس أصحاب العمل لاحتساء الشاى وسط نسمات الربيع، ويتذكرون أنشودة القمح "هيا للسنبل نحصده فى الليل على ضوء القمرِ.. أن ندى الصبح على السنبلِ كالفضة فى وادى الذهبِ.. فتعالوا نحصد بالمنجل ونغنى أغنية الطربِ".
شقاء المزارعين فى الحصاد
"اليوم السابع" زار موقع العمل فى حصاد القمح بمحافظة أسوان، ليرصد طبيعة عمل المشاركون فى إنتاج الذهب الأصفر، ويسأل: هل ما يتقاضونه من أجرة يكون فى ذلك اليوم؟ كما أمر الله عز وجل فى قوله "وآتوا حقه يوم حصاده" ويجيب على هذا السؤال عدد من العمالة والمزارعين والمشاركين فى يوم الحصاد.
العمل خلال الحصاد
هانى حسن عبد اللطيف، 31 سنة، حاصل على دبلوم زراعة، قال: "أعمل فى حصاد القمح ودراسته منذ صغرى، لأنى أجيد العمل فى مجال الزراعة، وبعد حصولى على شهادة دبلوم الثانوية الزراعية، كانت أمنيتى أن أكمل دراستى التعليمية والتحق بكلية الزراعة، خاصة أنى حصلت على مجموع يؤهلنى للكلية، ولكن الحالة الاقتصادية للأسرة حالت دون ذلك".
وتابع هانى حسن، الحديث قائلاً: بالنسبة لحصاد القمح فكل يوم يأتى برزقه، فأحياناً نحصل على 1500 جنيه مقابل حصاد الفدان، وتوزع على المجموعة التى عادة ما تتكون من 4 أو 5 أفراد ويحصلون على المبلغ فى نهاية الحصاد، ويحتاج الفدان الواحد لحصاده نحو يومين على الغالب أو ثلاثة على الأكثر، ثم نترك القمح بعد حصاده لمدة يومين آخرين فى الزرع حتى يجف تحت أشعة الشمس، ثم نقوم بربطه وجمعه عبارة عن أكوام وحزم متعددة، ونقوم بتركه يومين أيضاً حتى يجف تماماً، ثم نبدأ بحصاده وتدريسه.
عامل الدراس
وأشار هانى، إلى أن المقابل المادى فى مهنة حصاد القمح أصبح غير مجزى مع مرور الوقت، خاصة مع ارتفاع أسعار السلع ولكن دائماً ما يردد "الحمد لله"، ويعلق بكلمته "نعيش يوم بيوم ومستورة"، موضحاً بأنه كان ينفق على نفسه بالأمس، واليوم هو ملتزم بالإنفاق على زوجته وابنته بالإضافة إلى مساعدة أسرته، وغداً سينفق أيضاً على مولوده المنتظر فى الطريق بعد حمل زوجته.
أشرف محمد حسن، وشهرته "ياسر"، أضاف أنه يبلغ من العمر 31 سنة، وحصل على الشهادة الثانوية الأزهرية، ومن وقتها وهو يعمل سائق جرار زراعى باليومية، لأن الجرار ليس ملكه ولكن يملكه رجل مسيحى يدعى "المقدس شهيد"، من أهالى القرية التى يعيشون فيها معاً ويراعى فيها السكان اجتماعياً بعضهم البعض، وليس من العيب أو الحرام لديهم أن يعمل المسلم عند المسيحى أو العكس، لأن شباب القرية يسعون وراء الرزق أينما كان، ويعلق قائلاً: "هذا أفضل من السرقة أو سلك طريق الحرام".
وحول طبيعة عمله فى حصاد القمح، أوضح أشرف بأنه عندما يسمع أن أحد مزارعى القمح سيبدأ الحصاد يذهب مباشرة إليه ليعرض عليه العمل، وقد يظل أسبوع كامل يبحث عن فرصة عمل باليومية بأراضى زراعية ولا يجد، لافتاً إلى أن مهمته يوم الحصاد هو أن يشغل جراره بعد تثبيت عجلاته على رافع حتى لا يتحرك، ويربط سير الجرار بماكينة الحصاد حتى تعمل عندما يدور الجرار، ومن حين لآخر يوضع لها كمية من "العسل الأسود" حتى يمسك السير بعضه ولا يخرج عن مساره أثناء الدوران والربط بين الجرار والماكينة.
وأضاف أشرف، أن صاحب الجرار يتحصل على 150 جنيهاً فى الساعة، وعادة ما يستغرق حصاد الفدان من "دراسة" لـ7 أو 8 ساعات متواصلة، بينما يحصل سائق الجرار على 5 جنيهات فى الساعة فقط وتعطى نفس القيمة لمعاونه الذى يعمل على ماكينة الدراس وإخراج حبات القمح، موضحاً بأن صاحب الجرار يتحمل أيضاً تغذية الجرار الزراعى بالسولار، وعادة ما يتم شراؤه بالجراكن نظراً لأنه لا يستطيع إيقاف عمل الجرار أثناء الحصاد والذهاب به لمحطة الوقود لتزويده بالسولار، لافتاً إلى أن الجرار يستهلك نحو 120 لتر سولار فى الحصاد، بواقع 600 جنيه لأنه يلجأ لشرائه بالغالى حتى يتمكن من شراء الكمية المطلوبة لتغطية وقت الحصاد، وفى نهاية الحسابات يتكسب صاحب الجرار على 500 جنيه، بينما يحصل العاملان على 70 جنيهاً فى الحصاد تقسم بينهما مناصفة، 35 جنيهاً لكلاً منهما.
اليوم السابع يزور موقع الحصاد
وأشار إلى أن المقابل المادى ليس هو المكسب الحقيقى من حصاد القمح، ولكن ما يسعى إليه العاملون فى الحصاد هو كمية القمح التى يحصل عليها فى نهاية اليوم، ويجمع عليها ما يعطيه له المزارعون فى الحصاد من هنا وهناك، حتى يتجمع له فى النهاية كمية مناسبة تكفيه وأسرته للأكل منها طوال السنة، لافتاً إلى أنه متزوج من امرأتين ولديه طفل من المرأة الأولى يبلغ من العمر 6 سنوات، ويعيش الأب فى بيت أسرته الكبير ولكنه قديم مبنى بالطوب اللبن ويكاد يسقط على رؤوس قاطنيه نتيجة تأثير المياه الجوفية على المنزل، ويعمل "ياسر" ليل نهار للإنفاق على أسرته، معلقاً: " ما أحصل عليه من 5 جنيهات فى الساعة لا تكفى لشراء الصابون اللازم لغسيل ملابس العمل ونظافتها من الزيوت والشحم التى تلحق بها فى نهاية اليوم، والواحد لو تعب ممكن يستلف عشان يتعالج".
حسام عادل أحمد، 15 سنة، طالب بالصف الثالث الاعدادى، يروى دوره فى حصاد القمح قائلاً: أعمل باليومية، والأجرة على حسب الأيام، فأحيانا ًيكون العمل بالمجان مساعدةً لوالدى أو زوج عمتى أيضاً لأنى أخرج معهما فى العمل، والأجرة التى أتحصل عليها بقول الحمد لله، لأن طبيعة عملى ليست مهمة كبيرة كباقى عمالة الحصاد ممن يكبرونى فى السن، لكن دورى يتوقف على مساعدتهم وتلبية طلباتهم أثناء العمل، مع محاولتى أن أتعلم أشياء عن العمل فى الحصاد أو غيره، ومكسبى الحقيقى فى نهاية اليوم، هو كمية "الغلة" التى يعطيها لنا صاحب الأرض، ونأكل منها خلال العام.
بسمة المزارعين خلال حصاد القمح
وتابع حسام عادل، أحاول أن أساعد والدى فى مصروفات المنزل فهو عامل باليومية أيضاً فى مجال تقطيع الطوب اللبن الذى يصنع من الطين، ونظراً لأن شقيقى الأكبر التحق بالخدمة العسكرية فأنا من يقوم بمساعدة أبى وتخفيف عبء المصاريف عليه وأحاول أن أوفق بين العمل والدراسة معاً، وأتمنى عندما أكبر أن التحق بكلية الهندسة وأصبح مهندساً معمارياً، وعلق "عشان أعوض أمى وأبويا، وأسعدهم كل ما كبروا فى السن وأبقى سندهم اللى يستندوا عليه".
الطفل محمد ياسر محمد، اجتذب أطراف الحديث قائلاً: أبلغ من العمر 12 سنة، وأدرس فى الصف السادس الابتدائى، ووجودى هنا فى حقل العمل لمساعدة جدى صاحب الأرض، فهو والد أمى ويحرص على تعليمى كل صغيرة وكبيرة فى الزراعة وأتمنى أن أصير فى يوم من الأيام مثله مزارعاً كبيراً صاحب خبرة واسعة فى مجال الزراعة، مضيفاً أنه يحرص على الذهاب للمدرسة يومياً وبعد أذان العصر يذهب إلى الزراعة برفقة جده ليتعلم منه ويصطحب معه كتبه المدرسية ليراجع دروسه وسط هدوء ونسيم الزراعات، مشيراً إلى أن جده يعطيه يومية مقابل حضوره للزراعة ومتابعة الحصاد كمكافأة له، وتكون أحياناً 10 جنيهات وأحياناً 20 وأحياناً أخرى 50 جنيهاً، وفى بعض الأحيان يشترى له "جلابية" للعيد، وغير ذلك من المكافآت التى يمنحها له جده تحفيزاً له.
سيد أبو الوفا سلطان، البالغ من العمر 62 عاماً، مزارع، وصاحب القمح الذى تم حصاده، وصف الحصاد بأنه "يوم عيد للفقراء"، وقال أن معظم العمالة التى تعمل فى حصاد القمح ترزق فى هذا اليوم، سواء بمقابل مادى أو بكمية من القمح يأكل منها وأسرته، مما يساهم فى تخفيف عبء على الحكومة فى تزايد الطلب على الدقيق، موضحاً بأن العمل فى الحصاد أحياناً يحتاج إلى 5 أو 7 أو أكثر، ولو كان هناك 20 شخصاً لا يردهم عن أرزاقهم والمساهمة فى الحصاد خلال ذلك اليوم.
وأوضح "سيد" بأنه يدبأ حصاده بجمع العمالة من خلال المجموعة التى يتفق معها على عدد الساعات والمقابل المادى وفى الغالب يتراوح ما بين 1500 جنيهاً إلى 2000 جنيهاً للمجموعة المكونة من 4 أو 5 أفراد، ومعظم العمالة الزائدة تأتى لتحصل على "شوية غلة" ولا يرد أحد مكسور الخاطر، وبعد حصاد القمح اليدوى الذى يحتاج إلى يومين فى الفدان فى الغالب، يتم ترك القمح على الأرض ليجف ثم يربط فى حزم متعددة ويترك أيضاً لمدة يومين أو ثلاثة ثم يبدأ الحصاد النهائى أو ما يسمى بـ"الدراس" والذى يستغرق نحو 7 أو 8 ساعات متصلة، وهناك ماكينات الحصاد العملاقة التى تستخدمها الشركات الكبرى فى أراضى توشكى مثلاً، وعادة ما يكون الحصاد فى المساء تحت ضوء القمر، قائلاً: نسترجع ذكريات أجدادنا المزارعين عندما كانوا يحصدون القمح ويرددون أنشودة "هيا للسنبل نحصده فى الليل على ضوء القمرِ".
ولفت إلى أن تكاليف حصاد فدان القمح اختلفت عن العام نظراً لارتفاع الأسعار حتى أصبح المزارع يتحمل ثمن الشوال الذى يعبأ فيه حبات القمح ويصل سعر الواحد لـ4 جنيهات، بالإضافة إلى مصروفات نقل المحصول للصوامع والشون وتقدر على حسب المسافة، بخلاف مصروفات العمالة والآلات وغير ذلك لتصل فى نهاية إلى ما يزيد عن 6 آلاف جنيه فى الفدان الواحد، بجانب ما يدفعه المزارع من إيجار الأرض إذا كانت مستأجرة من شخص آخر، لأن هذا هو السائد بين معظم المزارعين فى الوقت الحالى، ويصل سعر إيجار فدان الأرض بدون زراعة إلى 7 آلاف جنيهاً فى السنة الواحدة، موضحاً بأن الفدان الواحد عادة ما ينتج ما بين 27 إلى 30 إردباً حسب اهتمام المزارع بالأرض وشطارته فى الإنتاج.
جانب من حصاد القمح
وأكد "أبو الوفا"، أن رغم هذه التكاليف والخسارة التى يتحملها المزارع، إلا أنه يفضل زراعة القمح الذى يسد احتياجاته من الغذاء ويحقق له الاكتفاء الذاتى، ويمكن أن يزرع بعده محاصيل الذرة أو الشامى أو الكاركدية أو السمسم والذى لا يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه للرى خلال فصل الصيف، مناشداً المسئولين فى الدولة الاهتمام بالإنتاج المحلى من القمح نظراً لضمانته المؤكدة فى الغذاء بخلاف ما يسمعونه من أخبار عن الشحنات التى تأتى من الخارج والتى قد تكون مصابة أو مسرطنة ولا يتم التأكد من مصدر زراعتها، مع رفع سعر إردب القمح حتى يصل لسعر عادل يتكافأ مع ما يتكبده المزارع بالموسم.
حسين جلال، مسئول إدارة الشئون الزراعية بمديرية الزراعة بأسوان، صرح لـ"اليوم السابع"، بأن المساحات التى تم زراعتها من القمح خلال هذا الموسم بلغت نحو 56 ألفاً و7 أفدنة، مقارنة بالعام الماضى الذى بلغت مساحة أراضيه نحو 66 ألف فدان، وهذا يرجع إلى تقليل بعض المساحات المنزرعة فى مشروع توشكى لأسباب متعددة، موضحاً بأن سعر الإردب بلغ 600 جنيه هذا العام للقمح الذى بلغت درجة نقاوته 23، 5 قراريط، و585 جنيهاً للقمح الذى بلغت درجة نقاوته 23 قيراطاً، و570 جنيهاً للقمح الذى بلغت درجة نقاوته 22، 5 قراريط، ويتم صرف المبالغ المالية للمزارعين بعد يومين أو ثلاثة يتم خلالهما حساب درجة النقاوة، بعكس المواسم الماضية التى كان يصرف للمزارع فى نهاية موسم الحصاد والتوريد.
الأطفال يجمعون الغلال
المزارع يربط الأجولة
جمع أجولة القمح
جانب من يوم حصاد القمح
صحفى اليوم السابع مع المزارعين
الذهب الأصفر
التبن المستخرج
الطيور فى نهاية الحصاد
محرر اليوم السابع مع سائق الجرار الزراعى
عامل الجرار يضع العسل الأسود للسير المتحرك
شقاء العمالة خلال حصاد القمح
صحفى اليوم السابع مع عمالة الحصاد
الأطفال يشاركون فى الحصاد
المزارعون يتناولون الشاى وسط الزراعات
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة