ياقبر ناجى العلى.. يادى الضريح
كان ميتك للأسف وطنى صريح
تحتك فتى ناضر القلب.. غض
كان قلبه.. أرض مخيمات الصفيح
عبد الرحمن الأبنودى.. الموت على الأسفلت
مخيمات الصفيح القابعة بقلب لبنان التى غادرها ناجى العلى إلى الكويت بتوصية من صديقه غسان كنفانى، عاد إليها من جديد عام 1978 ليعمل بجريدة السفير اللبنانية حتى 1983، ظل خلال تلك الفترة على عهده مهتما بالقضية الفلسطينية، ولكن الحرب الأهلية المشتعلة فى لبنان احتلت مساحة كبيرة من لوحات العلى وقتها مدافعا بها عن وحدة لبنان، مهاجما دعاة تقسيمها على الطريقة القبرصية، من يطالبون بإقامة دولة مسيحية مستقلة بدعم إسرائيلى، فرسم فى إحدى لوحاته العلم اللبنانى منشطرا إلى عدة أجزاء فى إشارة الى التقسيم بواسطة قنابل تحمل علم اسرائيل، وفى لوحة أخرى رسم قس يقف أمام الحائط يُصلى، وقد أزال من على الحائط رمز الصليب ووضع مكانه علامة القسمة الحسابية فى إشارة إلى دعوة حزب الكتائب اللبنانية المسيحى إلى تقسيم لبنان.
فى تلك المرحلة ومع تطور أدوات ناجى العلى الفنية اتسمت دوما لوحاته بالقدرة الهائلة على التعبير الموجز دون الحاجة فى أغلب الأوقات إلى الكلمات مستعينا بمجموعة من الرموز التى اعتاد القارئ عليها من العلى للتعبير بدقة عن المعنى الذى يريده، فنجده مثلا بعد قرارات السادات بمنع الفلسطينين من دخول مصر بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، رسم العلى لوحة لحنظلة يزيل قطعة من ورق حائط مرسوم عليه نجمة داود، لتظهر من وراء ورق الحائط المخلوع صورة عبد الناصر وقد امتلات خلفيتها بعشرات الرسوم من القلوب، فى إشارة لمحبة عبد الناصر التى تملأ القلوب بينما الزمن السائد هو زمن التصالح مع اسرائيل.
فقد ظل عبد الناصر بالنسبة لناجى العلى الحصن الذى دافع وآمن بالقضية الفلسطينية طوال حياته، وعندما توفى تيتو الزعيم اليوغسلافى وصديق عبد الناصر عام 1980، رسم العلى حنظلة فى تشييع الفقيد يُلقى زهرة على النعش ويودع تيتو قائلا: قُل لعبد الناصر أن العرب بحالة يرثى لها.
كام قلت له: قولها خفايف
نص شفايف
قاللى: يا شاعر لو خايف... شوف الرسمة
والرسمة فيها يهود.. بحاخام
والأنكل سام...
وعرب لطاف عايشين فى سلام.. جوه الرسمة
بعد خمس سنوات قضاها العلى فى جريدة السفير بلبنان، عاد مجددا إلى الكويت لينضم إلى جريدة القبس عام 1983 وحتى 1985 وهى واحدة من أهم المراحل الفنية فى حياة "العلى" فكان النقد للمنظمة التحرير الفلسطينية على أشده، إلى جانب انتقاده الدائم للسياسة الأمريكية وتعاون القادة العرب معها.
وقال محمد الجاسم رئيس تحرير القبس الكويتية عن رسوم ناجى العلى وقتها:
"أن القراء يفتحون الصفحة الأخيرة من القبس ليرون ماذا يقول العلى فى كاريكاتيره اليوم قبل أن يقرأوا المانشيت الرئيسى على الصفحة الأولى للجريدة."
وفى تلك المرحلة كانت ملامح ورموز رسومات العلى قد ترسخت فى ذهن ووجدان القارئ العربى من المحيط للخليج، طفله المميز "حنظلة" الحالم بالعودة لفلسطين الذى اعتمده ناجى العلى إمضاءا للوحاته منذ عمله بجريدة السياسة الكويتية، وتصويره الأنظمة العربية فى شكل كائنات رخوية مقززة توحى بالخنوع ليعبر عن رفضه لخضوع القادة العرب لمخططات أمريكا وإسرائيل بالمنطقة تحت ستار عمليات السلام.
مع إزدياد انتقاد "العلى" للأنظمة العربية، إزداد إنزعاج السلطات الكويتية من وجوده على أراضيها، فلمحت إلى قادة منظمة التحرير أنها على استعداد أن تُخرج ناجى العلى من الكويت، إذا طلبت المنظمة ذلك، وبالفعل طلبت المنظمة إبعاده من الكويت.
فقررت إدارة "القبس" نقله للعمل فى النسخة الدولية من الجريدة بلندن، وبذلك خرج "العلى" للمرة الأخيرة من الكويت ليس إلى لبنان هذه المرة كما اعتاد، ولكن إلى عاصمة الضباب حيث كانت نهايته.
قتلت ناجى العلى لما رسم صورة
يواجه الحزن فيها براية مكسورة
لما فضحنى ورسمنى صورة طبق الأصل
ماعرفشى يكذب ولا يطلع قليل الأصل
ويابلادى.. ماتزعجيش نفسك عشان صورة
انضم العلى لفريق القبس الدولية بلندن مع بدايات 1986، وكانت بداية النهاية، ربما لتوهج العلى فنيا مع مناخ أكثر حرية فى العاصمة الأوربية، فأنبرى يدافع عن قضيته بحدة وجرأة أكثر، فاختصرت لوحات "العلى" كعادتها آلاف الكلمات، ولخصت مئات المقالات منطلقا من
قناعاته الثورية التى عبر عنها يوما فى لوحة قائلا:
"أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة إلى وجهة نظر"
كانت رسومات "ناجى العلى" على مدار سنوات المنبر الفنى الأعلى صوتا الرافض للتفاوض.. الرافض لكامب ديفيد وما تلاها ..الرافض لخنوع الأنظمة العربية.. الرافض لتبدل المواقف.. الرافض لتجاوزات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عرفات تلك التى وُجِهت إليها أصابع الإتهام بقتل العلى بعد آخر لوحاته التى أشار فيها إلى رشيدة مهران -كاتبة مصرية مغمورة- نالت عضوية اتحاد الكُتاب الفلسطينين بعد أن ألفت كتابا عن ثورة الفلسطينين بقيادة عرفات ووصفته فى الكتاب بأنه النبى والإله، وكان معروفا وقتها أن رشيدة صديقة لعرفات، وما نالته من مكانة لم تكن لقيمة أدبية، ولكن لعلاقتها الشخصية به، فيما اعتبر البعض تلك اللوحة سبب اغتيال العلى. وقد سبقها لوحة كاريكاتيرية أخرى وجه فيها "العلى" نقده إلى الشاعر الفلسطينى محمود درويش بعد أن أجرى الأخير حوارا مع صحيفة يديعوت أحرونوت، هدد بعدها درويش "العلى" بأنه يستطيع أن يطرده من لندن. ونشرت صحيفة الأوبزرفر اللندنية تعليقا على لوحة رشيدة مهران يقول:
"المزحة المميتة التى قتلت الرسام ناجى العلى"
فى 22 يوليو 1987 تعرض ناجى العلى لإطلاق نار عقب خروجه من مبنى القبس الدولى فى تشيلسى دخل على إثره إلى العناية المركزة لمدة سبعة وثلاثين يوما ثم توفى فى 29 أغسطس 1987 ودفن فى لندن على غير رغبته بعد أن عجزت أسرته عن تحقيق وصيته بأن يدفن فى مخيم عين الحلوة بصيدا.
وقتها أشارت أصابع الإتهام إلى منظمة التحرير بضلوعها فى اغتيال ناجى العلى إثر خلافه مع قادة المنظمة وعلى رأسهم ياسر عرفات، بينما دارت شكوك حول تورط الشاعر محمود درويش بعد هجوم العلى عليه، فى الوقت الذى لم يوجه أحد فيه الاتهام إلى إسرائيل رغم تورطها على مدار سنوات طويلة فى اغتيال رموز المقاومة الفلسطينية، وقد كان "العلى" أحد أهم رموزها الأكثر جرأة والأعلى صوتا وإيمانا وثباتا على مبادئه. والمثير للدهشة أن القادة الفلسطينين لم يوجهوا الاتهام إلى إسرائيل كما اعتادوا عند اغتيال أحد الرموز الفلسطينية، وفى كتابه "أكله الذئب" أشار شاكر النابلسى إلى تعليق المناضل الفلسطينى دكتور جورج حبش عندما سُئل بعد الحادث.. من قتل ناجى العلى؟ فلم يتهم إسرائيل، لكنه صرح لصحيفة الدستور الأردنية قائلا:
" معنديش جواب.. لا أملك معلومات.. الموضوع حساس وخطير وصعب". وحتى اليوم لم تحسم قضية الاغتيال، رحم الله ناجى العلى الفنان الفلسطينى المؤمن بقضيته، الذى عاش منفيا ومات منفيا.
ناجى العلى (1)
ناجى العلى (4)
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة