كنت ساخطة مثلكم على الكثير من الأشياء فى مصر، منذ بداية التعويم، أترقب يوميا تحرك الأسعار، وأسأل بشغف يوميا عن سعر الأرز والزيت واللحوم، وأخشى فاتورة الكهرباء وتعريفة المواصلات، كنت مثلكم أتهم الحكومة ببعدها عن الواقع المرير الذى يعيشه المواطن البسيط، عقب كل موجة غلاء، لا أقدر قيمة نعمة "الأمن والأمان" وأعتبرها أمرا طبيعيا وليست امتيازا موجودا فى مصر، حتى خضت تجربة صعبة فى اليمن بكل ما تعنى الكلمة.
سافرت فى مهمة عمل إلى اليمن، كنت أطمح فى نقل واقع إنسانى وسياسى وعسكرى على أرض اليمن، وهنا نقطة التحول والتى أردت من خلالها نقل تجربتى إليكم بكل أمانة، ليس دفاعا عن الرئيس أو الحكومة فأنا لست سياسية ولم أعمل بالسياسة، أنا مواطنة عادية شاءت الأقدار أن تصبح مراسلة حربية، منذ سافرت تبدلت عبارات السخط بعبارة واحدة "الحمد لله على الغلاء".. تلك العبارة التى يستغربها كثيرون وقد يقولون إنى ادافع عن قرارات الحكومة بشان ارتفاع الأسعار، أنا لست سياسية لكنى مواطنة مثلكم أركب المترو يوميا، وأتضرر من ارتفاع أسعار الأرز واللحوم والزيت وغيرها من السلع التى تمس حياتنا اليومية، وكنت ساخطة على الكثير من الأشياء قبل شهرين من الآن.
منذ الوهلة الأولى لوصولى الأراضى اليمنية، فزعت من مشاهد الخراب، رأيته كالمارد يترك بصماته ليس فقط على الشوارع والمساكن التى اضطر أهلها للفرار منها، تاركين أبسط الضروريات، لكن تركت الحرب آثارها على الأجسام وبداخل النفوس، بكل مكان بكل حى تجد رجلا طفلا امرأة بجسد مشوه قد بترت أجزاء منه، وأقول أجزاء وليس جزءا واحدا، قلما تجد شخصا فقد طرفا واحدا بل طرفين وأكثر، إن لم يكن ضحية قصف القناصة العشوائى أو قذائف الهاون أو الصواريخ الحرارية والكاتيوشا، ستكون ضحية الجوع .
حسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة يبلغ عدد ضحايا الحرب فى اليمن 63 ألف بين قتيل ومصاب، وحسب وزارة حقوق الإنسان اليمنية الضحايا 53 ألفا، و10 آلاف طفل من أبناء اليمن تتراوح أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشرة، خطفوا من أحضان ذويهم، وأجبروا على حمل السلاح، وتعاطى المخدرات، والوقوف على الجبهات، استبدلت الأقلام بالكلاشينكوف، هل جربتم شعور أن يؤخذ أبناؤكم أمام أعينكم للتجنيد الإجبارى فى صفوف الحوثيين ليعودوا بعد أشهر جثثا غير معلومة المعالم حتى بالكاد تتعرف على ابنك لدفنه حتى هذا الحق غير ممنوح لك، فالحوثيون يبدلون الجثث ويخدعون أهالى الأطفال بجثث ليست لأبنائهم .
أم مكلومة وجدتها بجوار مقابر تعز، تأتى يوميا بحثا عن طفلها "محمد" الذى مات على جبهات الوازعية وهو يحارب فى صفوف الحوثيين رغما عن إرادته، لم يكن يعلم انه جنديا بالأساس فقط كان يريد الذهاب لدورات تدريبية على اللغة الإنجليزية كثيرا ما حلم بها فجاءت طواقم الحوثيين إلى مدرسته أخذته ومعه 20 طالبا فى الصف الثانى الإعدادى واهمة إياهم أنهم ذاهبون إلى حيث تعطى هذه الدورات وما خرجوا من المدرسة حتى ألقوا فى بدروم مظلم، لمدة ثلاثة أيام بعدها أصعدهم الحوثيون على الجبهات ظلوا هناك مدة 90 يوما مات من مات منهم وأصيب من أصيب، هذه إحدى نتائج حروب شنها الحوثيون على بلاد آمنة مسنودين بدعم إيرانى، فالحوثيون لا يمثلون إلا قلة من الشعب اليمن كانا يقطنون كهوف صعدة، بلا عتاد أو أموال ، فقط استخدمتهم إيران قوة مضادة لاستكمال مخططها بالمنطقة وفور سقوط عدن فى مارس 2015 احتفلت طهران بسقوط الدولة الرابعة فى الشرق الأوسط، بعد العراق ولبنان وسوريا.
ناهيك عن ضحايا الألغام، فبحسب إحصائيات منظمة رصد للحقوق والحريات ، ووزارة حقوق الإنسان فهناك 2000 يمنى ماتوا نتيجة انفجار ألغام و3400 يمنى فقدوا أطرافا لهم ويحتاجون أطرافا صناعية، هؤلاء ضحايا ما زرعه العدو الحوثى من ألغام بلغت 40 ألف لغم فى أربع محافظات فقط .
أعلم أن قرار رفع أسعار تذكر المترو ألم الكثيرين ومعهم حق لكن إذا علمت أن غيرك لا يستطيع الخروج من منزله من جهة هم تحت تهديد القصف العشوائى ليلا نهارا ، ومن جهة اخرى لا توجد وسائل مواصلات فالبنزين غير متوفر حيث قصف الحوثيون مصافى البترول وما يتم استيراده ترك لعبة بأيدى التجار يضعون أسعاره كيفما شاءوا فى ظل غياب الدولة فأصبح سعر دبة البترول وهى 20 لترا يتراوح بين 6500 ريال يمنى و7000 بدلا من 3000 وهذا الارتفاع خلال 4 أشهر ، هذا حال المناطق المحررة فى اليمن أما المناطق غير المحررة فحدث ولا حرج، تتخطى الأسعار حاجز الـ8000 ريال وغير موجود أبلغنى الأهالى ، أنهم يبحثون أياما عنه دون جدوى.
وعلى صعيد المأكل والمشرب هناك 11 مليون يمنى فى حاجة إلى إغاثات عاجلة ، 22 مليون يمنى فى احتياج إنسانى ، هناك يمنيون عالقون فى مناطق اشتباك لا تصل لهم المعونات الغذائية ، الخبر مجرد الخبز بالنسبة لهم حلم كبير قلما يجدونه .
اليمن كانت تسمى "اليمن السعيد" .. كانت دولة شامخة تنعم بكل مقومات الحياة من سياحة وتجارة وموانئ ، لكن دمرتها الاطماع الإقليمية والتدخلات الإيرانية فأصبح شعبها ممزقا بين قتيل و جريح وجائع لا يجد قوت يومه، يتمنون يوما يقضونه فى القاهرة ينعمون بالأمان ، كم من يمنى طلبوا منى مساعدتهم للدخول لمصر، كم يمنى قال لى "أنتم محظوظون بدولة.. أمان.. كيان" هذه الكلمات التى لم أكن أدرك قيمتها بل كنت منغمسة فى السخط على الأيام الصعبة، أدركت كم من شعوب تعيش الدمار والمرارة، ليست اليمن فقط بل العراق وسوريا وليبيا، مصر استطاعت أن تحمى نفسها بفضل شعب واعى ورئيس وفى مخلص، ستظل مصر عقبة فى طريق اكتمال خارطة الأطماع الإيرانية الأمريكية، فقواتها البحرية تقف شامخة تصد أى محاولات للاعتداء على البحر الأحمر، وقوات الجيش تصد الهجمات عنا فى سيناء ، القوات الجوية تشارك مع طيران التحالف فى حماية الأجواء بالمنطقة.
أردت أن أنقل لكم واقعا عشته.. تجربة جعلتنى أنظر للأمور بشكل مختلف، لا أنكر مشكلة غلاء الأسعار لا أنكر أن الاسر تضاف على كاهلهم أعباء جسية مع كل موجة غلاء، لكن ليس أمامنا سواء مساندة دولتنا حتى لا نفقد أمننا وكياننا صحتنا.. أهم ميزات نتمتع بها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة