بالطبع اختلف الحال فى رمضان اليوم عنه فى السنوات السابقة، انتقل الإنسان من عصر ما قبل الإذاعة إلى عصر الإنترنت واليوتيوب ومئات الفضائيات والقنوات والصفحات، ومع هذا يبدو بعض الناس غير مبسوطين، يحنون لماض أكثر بعدًا، يقولون إنه كان أكثر بساطة ومن دون تعقيد.
والواقع أن الناس تحن لذكريات الماضى أكثر من رغبتها فى العودة للماضى، ولو خيرت أى إنسان حالى أن يرجع للماضى بتفاصيله، فسوف يتردد، وربما يجد من الصعب عليه أن يغادر عالمه، و«تليفونه التاتش، وفضائياته، وفيسبوكه، ويوتيوبه»، ليرجع إلى زمن ما قبل الكهرباء.
وأغلب حالات الحنين للماضى، والتى يدلعها البعض بـ«النوستالجيا» هى حنين إلى الأقدم.. جيل ما بعد الكهرباء يحن لما قلبها، لكنه لا يتصور حياته فى الظلام، وما بعد الإذاعة يحن لما قبلها، وجيل التليفزيون يحن إلى الراديو.
كل جيل يتذكر رمضان أيام زمان، وعلى العكس مع توفر كل أنواع التكنولوجيا والتواصل والفضائيات واليوتيوب، وإتاحة المسلسلات بكل أشكالها وألوانها، تجد من يحن إلى «ألف ليلة وليلة» عندما كانت تقدم فى الإذاعة بمؤثرات صوتية ومن دون صورة، ولا شىء غير صوت الفنانة الكبيرة زوزو ماضى، وهى تقوم بدور «شهرزاد»، وتحكى بصوتها الغامض ومعها الأستاذ عبدالرحيم الزرقانى.
وبعد ظهور التليفزيون بقناتين، كل واحدة تعرض ساعتين، وكان هذا بمثابة معجزة ونقلة، ومع الوقت اتسعت الساعات، وبعد أن أصبحت القنوات لنصف يوم كان هناك من يحن لما قبله.
ومع السبعينيات من القرن العشرين ظهرت المسلسلات والفوازير والصوت والصورة والجوائز، مجرد مسلسل واحد وفوازير واحدة، كل الناس تتابعها وتشارك فيها، ولم يكن هناك ترف التنقل بين القنوات.
ولما ظهر التليفزيون الملون كانت ثورة أخرى غيرت من شكل التلقى، وتلونت الأفلام والمسلسلات والبرامج، وكان عصرًا آخر من الألوان، لكنه لم يستمر وتطورت الأحداث بشكل تدريجى حتى التسعينيات، نهاية القنوات الأرضية وظهور الفضائيات.
هناك من ظل يحن لزمن القناتين، الأولى والثانية، وحتى الثالثة والبرامج المحدودة التى يشاهدها الجميع، قبل عصر الفيديو وبعده.. كان هذا نمط العالم وثقافته ووضعه.
كان رمضان مع التليفزيون بالصوت والصورة «أبيض وأسود»، وبعد الألوان اتسعت المساحات وتعددت البرامج والقنوات، سينما وأفلام ومسلسلات وفوازير ومسحراتى وعالم تانى، كان برضه له شكله وطعمه وألوانه وأفكاره.
ومثلما كان رمضان مع الإذاعة عالمًا آخر، ومع التليفزيون، تغيرت خريطة الفرجة والسعى والعمل وكل تفاصيلها، ودخلنا عصر الصورة، وتغير الخيال ليصبح مجسمًا أكثر، ولهذا ظل كل جيل يحن لذكرياته مع ماضٍ لم يكن بالضرورة الأفضل، لكنه كان أبسط وأقل تشابكًا.
بعد التليفزيون والتحول الثانى تغير شكل وطعم رمضان، حتى الأذان نفسه تغير، قبل الميكروفونات والإذاعة كانت المساجد يرفع الأذان فيها مؤذن كان يتم اختياره بعناية.. حسن الصوت، طويل النفس، ولهذا ظهرت المئذنة، وعرفت الجوامع الإسلامية بأنها ذات المآذن والقباب، وهى منارة المسجد، مبنى أو برج مرتفع طويل يكون ملحقا بالمساجد، وغرضه توصيل صوت الأذان للناس ودعوتهم للصلاة.
كثير من المآذن كانت تزود بالقناديل، لتقوم بدور منارات تهدى المسافرين للمدينة أو البلدة، وكان البعض يسميها المنارات، ومع مرور الزمن أصبحت قطاعا قائما بذاته من فنون العمارة الإسلامية، ووجدت اهتماما فى التصميم والتنفيذ، واختلفت ارتفاعاتها إلى عدة عشرات من الأمتار، وزُخرف بناؤها وزين بالنقوش الإسلامية وكانت أشكالا بين مدورة، ومضلعة ومربعة، وقاعدتها تتناسب طرديا مع ارتفاع وجواها سلم حلزونى يصعد إلى شرفتها حيث يقف المؤذن وينادى للصلوات.
ولهذا اشتهرت القاهرة بكثرة عدد مآذنها وكانت تعرف بمدينة الألف مئذنة، لكن مع الميكروفونات لم يظل البعض حريصا على اختيار الصوت الأفضل، وشاعت ظواهر أخرى تحولت مع الوقت إلى قاعدة أو اعتبرها البعض جزءا من الدين وهو أمر عارض عمره سنوات.
خلاصة الأمر أن الحنين إلى الماضى قد لا يعنى الرغبة فى العودة إلى هذا الماضى.