نواصل، اليوم، سلسلة "آية و5 تفسيرات" التى بدأناها منذ أول رمضان، ونتوقف اليوم عند آية من الجزء الثالث، وهى الآية رقم 256 فى سورة البقرة والتى يقول فيها الله سبحانه وتعالى "لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ".
تفسير ابن كثير
يقول تعالى: (لا إكراه فى الدين) أى: لا تكرهوا أحدا على الدخول فى دين الإسلام فإنه بين واضح جلى دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول فى الدين مكرها مقسورا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية فى قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عاما.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبى عدى عن شعبة عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل: ( لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى )، وقد رواه أبو داود والنسائى جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبى حاتم وابن حبان فى صحيحه من حديث شعبة به، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبى والحسن البصرى وغيرهم: أنها نزلت فى ذلك.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبى محمد الجرشى عن زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [ بن جبير ] عن ابن عباس قوله: ( لا إكراه فى الدين ) قال: نزلت فى رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له: الحصينى كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله فيه ذلك.
رواه ابن جرير وروى السدى نحو ذلك وزاد: وكانا قد تنصرا على يدى تجار قدموا من الشام يحملون زيتا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث فى آثارهما، فنزلت هذه الآية.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبى حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبى هلال عن أسق قال: كنت فى دينهم مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب فكان يعرض على الإسلام فآبى فيقول: ( لا إكراه فى الدين ) ويقول: يا أسق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.
وقوله: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) أى: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو ( فقد استمسك بالعروة الوثقى ) أى: فقد ثبت فى أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.
تفسير البغوى
قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة - (المقلاة من النساء) لا يعيش لها ولد - وكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنه فإذا عاش ولدها جعلته فى اليهود فجاء الإسلام وفيهم منهم فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عدد من أولاد الأنصار فأرادت الأنصار استردادهم وقالوا: هم أبناؤنا وإخواننا فنزلت هذه الآية (لا إكراه فى الدين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وإن اختاروهم فأجلوهم معهم".
وقال مجاهد: كان ناس مسترضعين فى اليهود من الأوس فلما أمر النبى صلى الله عليه وسلم بإجلاء بنى النضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم فمنعهم أهلوهم فنزلت ( لا إكراه فى الدين ) .
وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فى نفر من النصارى يحملون الطعام فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضى النار وأنا أنظر فأنزل الله تعالى ( لا إكراه فى الدين ) فخلى سبيلهما.
تفسير الطبرى
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فى معنى ذلك.
فقال بعضهم: نزلت هذه الآية فى قوم من الأنصار- أو فى رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول فى الإسلام.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية فى خاص من الكفار، ولم ينسخ منها شىء.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: "لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: أكره عليه هذا الحى من العرب، لأنهم كانوا أمة أميه ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم.
حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة فى قوله: " لا إكراه فى الدين "، قال: هو هذا الحى من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية، ولم يقتلوا.
وفى تفسير الجلالين
لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم.
لا إكراه فى الدين على الدخول فيه قد تبين الرشد من الغى أى: ظهر بالآيات البينات أن الإيمان رشد والكفر غى نزلت فيمن كان له من الأنصار أولاد أراد أن يكرههم على الإسلام فمن يكفر بالطاغوت الشيطان أو الأصنام وهو يطلق على المفرد والجمع ويؤمن بالله فقد استمسك تمسك بالعروة الوثقى بالعقد المحكم لا انفصام انقطاع لها والله سميع لما يقال عليم بما يفعل.
تفسير الشيخ الشعراوى
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا نحن العباد المؤمنين ولسائر البشرية أنه: "لاَ إِكْرَاهَ فِى الدين"، والإكراه هو أن تحمل الغير على فعل لا يرى هو خيراً فى أن يفعله، أى لا يرى الشخص المكرَه فيه خيراً حتى يفعله.
لكن هناك أشياء قد نفعلها مع من حولنا لصالحهم، كأن نرغم الأبناء على المذاكرة، وهذا أمر لصالح الأبناء، وكأن نجبر الأطفال المرضى على تناول الدواء. ومثل هذه الأمور ليست إكراهاً، إنما هي أمور نقوم بها لصالح من حولنا؛ لأن أحداً لا يسره أن يظل مريضاً.
إن الإكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الأفعال لا يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم. ولذلك يقول الحق سبحانه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين}. ومعنى هذه الآية أن الله لم يكره خلقه وهو خالقهم على دين، وكان من الممكن أن الله يقهر الإنسان المختار، كما قهر السماوات والأرض والحيوان والنبات والجماد، ولا أحد يستطيع أن يعصى أمره. فيقول سبحانه: {لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً}"
لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محباً مختاراً وليس مقهوراً، أن المجىء قهراً يثبت له القدرة، ولا يثبت له المحبوبية، لكن من يذهب له طواعية وهو قادر ألا يذهب فهذا دليل على الحب، فيقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} أي أنا لم أضع مبدأ الإكراه، وأنا لو شئت لآمن من في الأرض كلهم جميعاً. فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟. لا، إنّ الرسول جاء لينقل عن الله لا ليكره الناس، وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين، وإلا لو أكرههم لما أرسل الرسل، ولذلك يقول المولى عز وجل: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة