نستكمل فى سلسلة "سلى صيامك" مع الألغاز فى رمضان، الحلقة الثالثة من كتاب "ألغاز تاريخية"، وهو من تأليف بول أرون، ومن ترجمة شيماء طه الريدى، ومراجعة إيمان عبد الغنى.
وفى هذه الحلقة، يطرح بول أرون، سؤاله: لماذا بنى الفراعنة الأهرامات؟
فى قرابة عام ٤٥٠ قبل الميلاد، روى هيرودوت قصة عن خوفو؛ وهو فرعون فى غاية الخبث والشر الذى دفعه، حين أضاع كل ثروته، إلى إرسال ابنته إلى أحد بيوت البغاء ومعها أوامر بتدبير مبلغ معين له، ولأنها ابنة مخلصة وطائعة، فعلت ما أمرها به، ولكن أملًا منها فى أن تذكر بشىء آخر بجانب عدد الرجال الذين مارست معهم الرذيلة، كانت تطلب من كلِّ رجل ضاجعها حجرًا على سبيل الهدية، وبهذه الأحجار قامت ببناء واحد من الأهرامات الضخمة التى لا تزال قائمة على هضبة الجيزة بالقرب من نهر النيل.
فى الوقت الذى كان هيرودوت يكتب فيه عن الأهرامات، كان عمر الأهرامات ألفى عام، غير أنه فى الألفى عام الأخرى التى مرت منذ ذلك الوقت، لم يتوقف سيل النظريات المعتوهة عن أصول الأهرامات.
كان بعض كتاب العصور الوسطى يعتقدون أنها الصوامع المذكورة فى التوراة، والتى كان يوسف يستخدمها لتخزين الذرة خلال سنوات الوفرة والرخاء فى مصر. وفى مرحلة أقرب، وُصفت الأهرامات كساعات شمسية وروزنامات، ومراصد فلكية، وأدوات استطلاعية، ومراسٍ للسفن الفضائية.
غير أنه حتى هيرودوت كان يعلم أن النظرية الأكثر قبولًا هى أن الأهرامات كانت مقابر للفراعنة، ولا يزال أشهر علماء المصريات يعتقدون ذلك، ولسبب وجيه؛ فالأهرامات تمتد على طول الضفة الغربية للنيل، والتى تربطها الخرافات المصرية القديمة بكلٍّ من غروب الشمس والرحلة إلى العالم الآخر، واكتشف علماء الآثار بجوار الأهرامات المراكب الجنائزية الطقسية التى كان من المفترض أن يُبْحِر الفراعنة بها إلى العالم الآخر، كما يحيط بالأهرامات مقابر أخرى، يُفترَض أنها خاصة بأفراد البلاط الملكى للفراعنة.
ولعل أقوى الشواهد جميعًا أن العديد من الأهرامات كانت تحوى نواويس حجرية أو توابيت، وبحلول القرن التاسع عشر، تم تحديد أن بعض النقوش الهيروغليفية على النواويس — أو بالقرب منها — تمثِّل تعاويذ سحرية لمساعدة الفراعنة على المرور من عالم إلى العالم الذى يليه.
غير أن نظرية المقابر كان ينقصها دليل فى غاية الأهمية؛ وهو وجود جثة، فخلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، دخل المستكشفون ومن بعدهم علماء الآثار هرمًا تِلْو الآخر (فهناك ما يزيد على ثمانين هرمًا فى محافظات عديدة على طول وادى النيل، وربما يكون هناك أهرامات أخرى مدفونة تحت رمال الصحراء) وكانوا يجدون ما كان يبدو أنه تابوت فرعوني، ويفتحونه — حابسين أنفاسهم — ليجدوه خاويًا مرارًا وتكرارًا.
طالما كانت أكثر التفسيرات شيوعًا للمقابر الخاوية أن الأهرامات قد نُهبت، وبالطبع كان معظم اللصوص أكثر اهتمامًا بالعثور على كنوز الفراعنة من اهتمامهم بجثثهم، إلا أنه ليس من المحتمل بالتأكيد أن يكونوا قد استغرقوا أى قدْر من الوقت فى التأكُّد من أن الجثث كانت محفوظة بطريقة ملائمة، ومن غير المحتمل أيضًا أن يكونوا قد تركوا وراءهم أى مومياء مغطاة بالذهب الخالص.
وعلى الأرجح أن أول لصوص القبور هم المصريون القدماء أنفسهم، استنتاجًا من الجهود المضنية لإحباط محاولات السرقة، ففى هرم أمنمحات الثالث فى هوارة، على سبيل المثال، يؤدِّى المدخل إلى حجرة صغيرة خاوية تؤدى إلى ممرٍّ ضيِّق لا يوصل إلى أى مكان، فى سقف هذا الممر، كان هناك حجر ضخم يزن أكثر من اثنين وعشرين طنٍّا، حين زُحْزِح إلى الجنب، ظهر رُواق علوى لم يؤدِّ فيما يبدو إلى أى مكان أيضًا، وكان هناك باب خفى من الطوب فى أحد الجدران يؤدِّى إلى ممر ثالث، ثم كان هناك حجران آخران فى السقف قبل الوصول إلى غرفةٍ صغيرة تؤدى أخيرًا إلى غرفة الدفن.
غير أن كل ذلك ذهبَ سدًى؛ فلم يعُقْ لصوصَ المقابر عن السرقة، ولم يؤدِّ عزم الفراعنة وإصرارهم إلى إحباط علماء الآثار فحسب، بل إلى إحباط صائدى الكنوز فيما بعد، مثل الحاكم العربى عبد لله المأمون فى القرن التاسع، وكان قد ترك تقريرًا مفصلًا عما كان يظنها أول بعثة استكشافية لهرم خوفو الأكبر، فبعد أن قاد زُمْرته عبر سلسلة من الممرات الكاذبة والمداخل المسدودة، وصل أخيرًا إلى غرفة الدفن؛ حيث لم يجد أى شىء سوى تابوت حجرى فارغ.
كان المستكشفون الأوروبيون الذين وصلوا إلى مصر بعد غزو نابليون مهتمين بالحجر المنقوش أكثر من اهتمامهم بالمجوهرات، ولكنهم لم يحترموا الآثار الفرعونية بدرجة أكبر بكثير من سابقيهم المصريين والعرب، ففى عام ١٨١٨، استخدم جيوفانى بلزونى، وهو لاعب سيرك إيطالى قوى البنية تحول إلى مستكشف، آلات حربية تُسمى الكبش لاختراق جدران هرم خفرع؛ ابن خوفو. ورغم أن بلزونى كان مشغولًا بتأمين مخزون كافٍ من المعروضات لمعرضه القادم فى لندن، فإنه توقف لفترة طويلة كافية لفحص الجثث فيما بدا أنها غرفة الدفن، وكانت العظام الوحيدة التى وُجِدت هناك لثور، ولعلها كانت نوعًا من القرابين ألقيت داخل التابوت الحجرى من قِبَل بعض المتطفلين الأوائل الذين فروا بجثة الفرعون.
أثمر البحث - عن الكنوز والجثث- عام ١٩٢٣ حين عثر عالم الآثار البريطانى هوارد كارتر على مقبرة توت عنخ آمون، ويُعتبَر الملك توت عنخ آمون الآن أشهر الفراعنة على الأرجح، وهو يستحق ذلك، بالنظر إلى الكنز الرائع الذى لم يمسه أحد وعثر عليه كارتر، واشتمل على تابوت صلب من الذهب، وقناع ذهبى على جسد الفرعون.
ولكن للأسف، لم يُثْبِت الاكتشاف أى شىء بشأن الأهرامات؛ إذ لم يكن توت عنخ آمون مدفونًا فى أحدها، فقد حُفِرت مقبرته فى صخور وادى الملوك بمصر مباشرة.
كان الشىء الأكثر تكديرًا لطاقم عمل كارتر هو وفاة إيرل كارنارفون، وهو عالم آثار هاوٍ وثرى كان يمول البعثة، فبعد وصول الفريق وادى الملوك مباشرة، وُجِد كارنارفون ميتًا فى القاهرة، وتُوفى اثنان آخران دخلا المقبرة بعدها بفترة وجيزة؛ كان أولهما رئيس قسم الآثار المصرية بمتحف اللوفر، ثم لحق به الأمين المساعد للآثار المصرية بمتحف ميتروبوليتان للفنون بنيويورك.
وأدى هذا حتمًا إلى ظهور كلِّ أنواع التخمينات الساذجة بشأن وجود لعنة، فَوَرَدَ بأحد التقارير أن كارتر قد عثر على لوح فى المقبرة نُقِش عليه: «سوف يضرب الموت بجناحيه كل من يعكر صفو الفرعون الذى يرقد بسلام».
تَواصَلَ البحث بغض النظر عن وجود لعنة أم لا.
فى عام ١٩٢٥ ، وبعد عامين فقط من اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، كان فريق من علماء الآثار الأمريكيين — تحت قيادة جورج أندرو رايزنر — يعمل بالقرب من قاعدة هرم خوفو الأكبر، وبالمصادفة، بينما كان مصور يحاول نصْب حامل آلة التصوير خاصته، نزع جزءً من الجَصِّ عن فتحة سرية حُفِرَت فى الصخر، ليكشف عن جزء من دهليز ممتدٍّ بعمق مائة قدم، وممتلئ بأحجار البناء من القمة إلى القاع، واستغرق الوصول إلى القاع أسبوعين.
وهناك عثر رايزنر على تابوت الملكة حتب حرس؛ أم خوفو، ولما كانت المقبرة مُخبأة بشكل محكم للغاية، تمنى رايزنر أن يجد مقبرتها سليمة لم تُمس، ولكن التابوت الحجرى كان خاويًا، وفقط، بعد أن تغلب فريق علماء الآثار على خيبة أملهم، لاحظوا مساحة مُغطاة بالجَصِّ على جدار الغرفة وجدوا خلفها خزانة صغيرة، وبداخل تلك الخزانة عثروا على أحشاء الملكة المُحنطة.
كان تخمين رايزنر - وقد اعترف أنه مجرد تخمين - أن الملكة كانت مدفونة بلا شك فى وقتٍ ما فى مكان آخر. بعد ذلك، وبعد أن تخلص اللصوص من جثتها للوصول إلى المجوهرات القابعة أسفل اللفافات المحيطة بها، أعيد دفن رفاتها بالضرورة بالقرب من زوجها وابنها.
تجدد الأمل فى العثور على مقبرة سليمة لم يمسها اللصوص عام ١٩٥١ ، حين اكتشف عالم المصريات المصرى زكريا غنيم بقايا هرم لم يكن معروفًا من قبل فى سقارة على بعد قرابة ستة أميال من جنوب الجيزة. لم يُلاحَظ هذا الهرم من قبل مطلقًا؛ إذ لم يتجاوز بُناته مرحلة الأساس، وقد غطته رمال الصحراء بعد ذلك. وفى البداية، اعتقد غنيم أن هرمًا غير مكتمل البناء من غير المحتمل أن يحمل الكثير من الأهمية، فضلًا عن حمْل رفات فرعون. ولكن ارتفع سقف توقعاته حين تتبع خندقًا ضحلًا يؤدِّى إلى نفق، وعندما قام بالحفر عبر ثلاثة جدران حجرية، ازداد حماسه للأمر؛ فعلى أى حال، لم يكن من المحتمل أن يكون أحد اللصوص قد استغرق وقتًا فى إعادة سدِّ مقبرةٍ وهو فى طريقه للخروج. وبدت المجوهرات التى عثر عليها فى الهرم دلالة أخرى على وجود مقبرة – أخيرًا - لم يعثر عليها اللصوص مطلقًا.
وأخيرًا وصل غنيم إلى غرفة الدفن التى قرر أنها الحجرة الخاصة بسخم خت، وهو فرعون لم يكن يُعرَف عنه الكثير، لكنه كان فرعونًا على أى حال. وحين عثر غنيم على تابوت من الذهب، أخذ هو وزملاؤه يرقصون ويبكون فرحًا ويتعانقون. وبعد بضعة أيام، وأمام حشد من الباحثين والمراسلين الصحفيين، أمر غنيم بفتح التابوت.
ولصدمته، وُجِد خاويًا.
كان الفشل فى العثور على فرعون فى مقبرته هو نقطة الانطلاق لظهور العديد من النظريات التى بُنِى الكثير منها على النظامية الرياضية التى رآها علماء المصريات فى الأهرامات. ففى القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، اكتشف الفلكى الاسكتلندى تشارلز بيازى سميث أن الهرم الأكبر كان به قدرٌ كافٍ من البوصات الهرمية التى تجعله نموذجًا مصغرًا لمحيط الأرض. ولسوء الحظ، كانت حسابات بيازى سميث الدقيقة قائمة على قياسات أخذت حين كانت الأكداس الضخمة من الحطام والأنقاض لا تزال تغطى قاعدة الهرم.
وفى عام ١٩٧٤ زعم الفيزيائى كورت مندلسون أن الأهرامات كانت عبارة عن مشروعات عمل عامة وليست مقابر، وأن الهدف منها كان خلْق هوية مصرية قومية للقبائل المُشتتة آنذاك، ولم تفسِّر نظرية مندلسون عدم وجود الجثث فحسب، بل فسرت أيضًا مشكلة أخرى مزعجة شابَت نظرية المقابر، وهى تحديدًا أن العديد من الفراعنة اتضح أنهم بنَوا أكثر من مقبرة. على سبيل المثال، كان للملك سنفرو - والد خوفو - ثلاثة أهرامات، ومن الصعب تخيُّل أنه كان ينوى تقسيم رفاته بينها. وكان لخوفو نفسه هرم واحد فقط، إلا أنه كان يضم ثلاث غرف يبدو أنها صُمِّمت كغرف دفن.
ثمة نظرية أخرى اكتسبت العديد من الأتباع والمؤيدين، وهى أن الأهرامات كانت أضرحة تذكارية؛ أى آثارًا شُيِّدت تكريمًا للفراعنة المتوفين ولكنها ليست مقابرهم الفعلية، التى كانت مُخبأة فى مكان آخر للحفاظ عليها من اللصوص. وكان هذا سيفسر لِمَ كانت مليئة بالسمات الجنائزية ولكن دون وجود جثث.
غير أن غالبية علماء المصريات لا يزالون على اعتقادهم بأن الأهرامات قد بُنِيَت فى الأساس كمقابر، حتى لو كانت قد خدمت بعض الأغراض الأخرى. فهى مُحاطَة بمقابر أخرى، وإن كانت لرجال دولة أقل مكانة. حتى لو كان اللصوص القدماء وغير القدماء قد استولوا على كلِّ أثر لها، فقد كانت جثث الفراعين راقدة هناك يومًا ما.
ويمكن فهم الأهرامات، من منظورِ ما أجمع عليه العلماء، على النحو الأفضل كجزءٍ من تدرُّج معمارى بدأ بمقابر مستطيلة ذات قمم مُسطحة بُنيَت من الطوب اللبن، والتى يُطلَق عليها الآن "مصاطب" وهى تلك التى عُثِر فيها على الجثامين.
وبعدها بدأ المهندسون المعماريون فى وضع هيكل ذى قمة مُسطحة فوق الآخر، ليُنشئوا ما أصبح التى لا يزال أشهرها موجودًا فى جنوب القاهرة بمنطقة سقارة، وفى النهاية، واتت أحدهم فكرة ملء المدرجات، لينتج المنحدر المعروف للهرم ربنا عند منطقة ميدوم على قرابة على بعد قرابة أربعين ميلًا جنوب سقارة.
وقد تزامن التطور المعمارى مع التغييرات اللاهوتية، فتُشِير النصوص التى وُجِدت على المصاطب إلى وجود اعتقاد بأن الفراعنة سوف يصعدون إلى السماء على درجاتها.
وتعكس نصوص لاحقة من فترة الأهرامات الحقيقية وجود عبادةِ إله الشمس، وتصف الفراعنة وهم يرتفعون للسماء على أشعة الشمس. وكانت الجوانب المنحدرة للهرم، التى تشبه شكل أشعة الشمس وهى تشرق من السماء، هى الطريقَ الجديد للسماء.
هل ألهمتْ عبادة الشمس المعماريين المصريين لتصميم الأهرامات؟ يبدو من النظرة الأولى أنه من غير المحتمل أن يكون كلُّ هذا العدد الكبير الإضافى من أطنان الأحجار قد استُخرج - لزامًا - من المحجر ونُقل وجُر لموقع البناء، فقط لمجرد أن السلم لم يَعُد يُعتبَر وسيلة فعالة للوصول إلى السماء. ولكن بقدر صعوبة استيعاب الأمر علينا بعد مرور أربعة آلاف وخمسمائة عام، كان المصريون يعتبرونه أمرًا يستحق الجهد. (وعلى الرغم من المفهوم الخاطئ الشائع أن العبيد اليهود قد بنوا الأهرامات، فإن المصريين هم من بنوها).
إن كل شيء تقريبًا تبقى من الحضارة المصرية يرتبط بالموت؛ فيبدو أنه كان القوة المميزة فى عقيدتهم الدينية، وأدبهم، وفنهم. فقد كانت الحياة الآخرة بالنسبة إلى الفراعنة هدفًا حقيقيٍّا للغاية، سواء بواسطة درجات السلم أم أشعة الشمس؛ لذا فمن الصواب تمامًا أن تكون الآثار التى تعرِّف حضارتهم للأجيال القادمة مُصممة أيضًا، بشكل شبه مؤكد، لِتُؤوى موتاهم.