بالغ البعض فى تقديره فرفعوه إلى مراتب النبوة، وبالغ البعض الآخر فى التهوين من شأنه، فلم يذكروا عن فضله إلا كلمات قليلات أتبعوها بذكر تطرف بعض المنتسبين زورا إليه، وكأنهم يعايرونه بتطرف المتمسحين به، لكنه وبلا مبالغة فى التقدير أو التهوين معلم الأئمة ومخضع الجبابرة ونصير العقل الأول. هو الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين ابن الإمام الحسين بن الإمام على بن أبى طالب عليهم جميعا رضوان الله، الذى أجمع على محبته وتقديره الراسخون فى العلم، سواء كان من أصحاب المذهب السنى أو المذهب الشيعى، وهو الذى كان يردد حكمة أبيه: «إياكم والخصومة فى الدين، فإنها تحدث الشك وتورث النفاق».
ولأنه صار منزها عن الغرض، ظل الإمام يحارب فقهاء السوء وعلماء السلطة مرددا قول أبيه: «إذا رأيتم القارئ «أى العالم» يحب الأغنياء فهو صاحب دنيا، وإذا رأيتموه يلزم السلطان من غير ضرورة فهو لص»، ولهذا صار يفتى بما لا يحب السلطان ولا يهوى، ناشرا فتاوى الإمام على وراويا الأحاديث النبوية التى سمعها آباؤه منه وأخفاها السلاطين طمعا فى الدنيا والسلطة، وإرباكا للناس وإبعادا لهم عن حقوقهم المشروعة، فأفتى بأنه لا يحق للمسلم أن يدخر أكثر من قوت عام إذا كان فى الأمة صاحب حاجة إلى طعام أو مسكن أو كساء أو دواء أو ركوبة، كما أفتى بأن السارق إذا اضطر إلى السرقة، لأنه لا يعمل، فولى الأمر هو المسؤول وهو الآثم، فإذا سرق السارق اضطرارا لأنه لا يحصل على الأجر الذى يكفيه هو وعياله، فإن ولى الأمر وولى العمل أولى بقطع اليد من السارق!!
ولأن الإمام يعرف أن الله أودع أسراره فى كتاب الله كما أودعها فى ملكوت الله، كان كثيرا ما يبحر فى علوم الدنيا متقلبا بين دراسة الفلسفة التى يظهر آثارها فى محاججته للمتشككين فى العقيدة والكيمياء والحساب، وليس أدل على براعته فى تلك العلوم الدقيقة من تتلمذ جابر بن حيان مؤسس علم الجبر وأبو الكيمياء على يديه، وكان الصادق فيما بعد يستعين بمعارفه العلمية على فهم الأمور الفقهية، كما كان يستعين بخبرته الكبيرة فى العلم على الإبحار فى علوم الفقه.
ولأن الإمام عاش فى عصر يموج بالتيارات الفكرية والفلسفية كان واجبا عليه تحملا منه لمسؤوليته التاريخية أن يدلى بدلوه فى تفنيد آراء المشككين والمتشككين فى العقيدة والخلق والألوهية، فقد سمع أن هناك طبيبا هنديا ملحدا، لكنه بارع فى الطب والصيدلة، فالتقى به وأخذ عنه علمه وحاوره مثبتا له وجود الله، وقد كان فى عصره رجل ملحد اسمه أبوشاكر الديصانى، ادعى أن الآية التى تقول: «وهو الذى فى السماء إله وفى الأرض إله»، تدل على أن الله ليس واحدا، وجاء رجل إلى الإمام الصادق ليعرض عليه هذا الأمر، فقال له: هذا كلام زنديق خبيث، إذا رجعت إليه فقل له ما اسمك فى الكوفة؟ فإنه سيقول لك فلان، فقل له ما اسمك بالبصرة؟ فسيقول لك فلان، فقل له كذلك ربنا فى السماء إله، وفى الأرض إله، وفى البحار إله، وفى القفار إله، وفى كل مكان إله، وبهذه الطريقة السمحة المسالمة فى النقاش والجدل، أسهم الإمام فى تحجيم موجة الإلحاد تلك، وأهدى بكلماته السمحة العاقلة قوما كثراً.