كان ذلك قبل أربعة اعوام وبضع شهور.. آثر التنظيم الدولى للإخوان حينها الاستسلام للسقوط بعدما بات مؤكداً انهيار مشروع الجماعة داخل مصر خلال عام واحد فى السلطة.. بأعين سكنها القلق، تأمل المنصف المرزوقى، الرئيس التونسى فى ذلك الحين ما آلت إليه أوضاع الجماعة، وما أعلنته الصناديق التى قررت طواعية العودة بعقارب الساعة إلى الوراء ، لتختار الباجى قائد السبسى، أحد أبرز رموز نظام زين العابدين بن على.
تأمل كهنة التنظيم فى لندن وإسطنبول مشاهد السقوط المدو الذى ألم بالجماعة فى مصر وتونس، وأدركوا أن سيناريوهات الصعود المحتمل فى دول العالمين العربى والإسلامى باتت محكومة بالفشل، فكانت أول خياراتهم للرد هى اللجوء إلى العنف ـ قولاً وفعلاً ـ وتمويل وإذكاء مظاهر الفتن والانقسامات للنيل من القادمين الجدد داخل السلطة، إلا أن قلة من بين قادة الإخوان كانت تدرك أن لثياب الديمقراطية ثقوب يمكن دائماً أن تكون منفذا للعودة الجديدة، وأن لصناديق الانتخابات ثغرات تكفل للجماعة باب الرجوع.
مبكراً ، أدركت الجماعة أن الديمقراطية زواج شائك وطلاق ممنوع. وأن خسارات الأمس يمكن أن تكون بوابة لغنائم الغد لو توافرت عدة شروط، فى مقدمتها عزوف الناخبين وانشغالهم عن ممارسة حقوقهم فى اختيار ممثليهم، وهو ما جرى بالفعل فى انتخابات المحليات فى تونس قبل أسابيع وشهدته فى الوقت نفسه الانتخابات البلدية فى ليبيا مؤخراً.
رهانات الإخوان على ضعف المشاركة والدفع بما لديها من كتل انتخابية لحسم اختبارات الصناديق لصالحها لم تكن الحيلة الوحيدة التى اعتمد عليها التنظيم فى سبيل العودة للأضواء، والبحث عن موطئ قدم جديد على الساحة السياسية، حيث استغل التنظيم الدولى غياب الكوادر والأسماء البارزة لدى النخب والقوى الليبرالية التى غابت عن المشهد ولا تزال تعانى من تراجع لافت فى دورها وتأثيرها على الصعيدين السياسى والاجتماعى.
وأمام ضعف الإقبال على العمليتين السياسيتين فى تونس وليبيا مؤخراً، يؤكد مراقبون أن جماعة الناخبين والمواطنين بشكل عام عزفوا عن المشاركة فى الحياة السياسية لأسباب عدة فى مقدمتها ما يعانون منه بسبب الحرب الممتدة ضد الإرهاب داخل وخارج الحدود، مع تنامى التهديدات التى يشكلها تنظيم داعش الإرهابى، والعناصر والكيانات الموالية له. وذلك بخلاف فاتورة الإصلاح الاقتصادى التى تحمل القاسم الأكبر منها المواطنين.
وأمام تراجع الطوابير، والقيود والأعباء التى باتت تحاصر المواطن العربى بشكل عام، نصبت جماعة الإخوان شباكها على الناخبين بالدفع بأسماء من الصف الثالث، وكوادر غير معروفة لدرى رجل الشارع للتسلل عبر "ثغرات الصناديق" إلى السلطة التشريعية والمجالس النيابية والمحلية، وهو ما حدث بشكل واضح فى الانتخابات البلدية الليبية.
ثغرات الصناديق، فتحت شهية الإخوان لمراوغة العروش والجيوش، بعروض الشراكة تارة، واقتراحات الوساطة داخل وخارج الحدود تارة آخرى، وهو ما ظهر فى دعوة راشد الغنوشى، رئيس حركة النهضة ـ الذراع السياسية لجماعة الإخوان فى تونس ـ لحزب الرئيس التونسى نداء تونس" لتقاسم الحكم المحلى، فى محاولة لاكتساب ما هو أكثر من شرعية الصناديق، آلا وهو اعتراف الخصوم بهذه الشرعية.
ورغم عدم وقوف الجماعة خارج معسكرات الصف الأول للمجالس التشريعية ممثلة فى البرلمان، إلا أن ما أحرزته من تقدم فى البلديات والانتخابات المحلية يمثل جرس إنذار مبكر لمجتمعات الربيع العربى التى اكتوت بنيران قمع الإسلاميين داخل السلطة، ونيران إرهابهم خارجها، ويمثل فى الوقت نفسه جرس إنذار للنخب التى اعتادت السقوط الحر دون أدنى محاولات لإعادة انتاج خطابها السياسي أو تقديم حلول واقعية لما يواجهه المجتمع من مشكلات.. فإما مشاركة واعية تدرك خطورة ما تواجهه الشعوب العربية من تحديات وإما استسلام لـ"سقوط حر" فى براثن الإخوان وارتضاء لما تمليه "ثغرات الصناديق".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة