كان الإمام الشافعى يقول: «الليث أفقه من مالك إلا أن قومه أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به»، ومالك هو الإمام مالك، فقيه أهل المدينة، وواضع أسس المذهب المالكى الذى أصبح من أشهر المذاهب المعتمدة، أما الإمام ليث فهو الفقيه المحدث الكريم، واسع العلم شديد الهمة، سخى القلب والروح واليد الذى ضيعناه، كما يقول الشافعى، فلم نحفظ آثاره، ولم نستفد بعلمه، ولم نرسخ مدرسته الفقهية، وسعينا وراء كل شيوخ العالم الإسلامى، ولم نسع وراء شيخنا، وهو العالم المصرى الذى نلمح من بين كلماته روح نهر النيل، وخضرة واديه، ونداوة أجوائه، لكننا ضيعناه إلى الأبد بإهمالنا له، كما نضيع الآن النابغين من أبنائنا، والعظماء من آبائنا، والخالدين من أجدادنا.
يقول الخطيب البغدادى، صاحب كتاب بغداد: إن أبى الوليد عبدالملك بن يحيى بن بكير قال: سمعت أبى يقول: ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه النفس، صحيح البدن، عربى اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حسن الذاكرة، ومازال يذكر خصالا جميلة ويعقد بيده حتى عقد عشرا لم أر مثلها، وأجمع كثير من المؤرخين أنه كان «سريا من الرجال، نبيلا سخيا له ضيافة»، ويستفيضون فى شرح محاسنه ومآثره، وقد لاحظ دارسو فقه الإمام أنه كثيرا ما كان يهتم بالأحاديث التى تهذب الروح، وتحرض على تأمل جمال الحياة والتفكر فيها، ويروى عنه أن أول حديث رواه هو «إن الله جميل يحب الجمال»، ويقول الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبدالرازق: إن «الذى نهض به الليث من توجيه الحركة الفقهية فى عصره إلى الناحية الخلقية الروحية، كان من حقه أن يجعل الليث معدودا فى أئمة الصوفية الذين نهضوا بالتصوف نهضته الأولى، ونهضة التصوف الأولى كانت أخلاقية»، ويتفق عبدالرازق فى هذا الاعتقاد مع الأصبهانى صاحب «حلة الأولياء» الذى عد الليث من أهل التصوف الأول قائلا: إنه كان يعلم الأحكام مليا ويبذل الأموال سخيا.
كان، رضى الله عنه، واسع الثقافة، محبا للعلم بكل صنوفه وأشكاله، فكان يتقن اللغتين العربية وهى لغة الإسلام والقرآن والحديث، بالإضافة إلى اللغة القبطية التى لم تكن قد اختفت بعد من الشارع المصرى، كما كان يتقن اليونانية واللاتينية، وهو الشىء الذى جعل عقله بالتأكيد ينفتح على الثقافات الأخرى، لينهل من علومها ويصقل تجاربه فى الحياة والفكر والثقافة.
يذكر أن امرأة طلبت منه رطلاً من عسل لتعالج ابنها، فى وقت شح فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل «والمرط نحو مائة وعشرين رطلا» فقال كاتبه: «سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟» فقال الليث: «سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا»، ولما هدم أحد ولاة مصر بعض الكنائس كتب الإمام إلى الخليفة بالأمر، فعزل الوالى، لأنه، بحسب وصف الليث، كان مبتدعا مخالفا لروح الإسلام، ولما تولى الوالى الجديد أمره بأن يعيد بناء الكنائس المهدمة، وأن يبنى كنائس جديدة كلما طلب ذلك المسيحيون فى مصر، موضحا للوالى أن أكثر الكنائس التى كانت قائمة بمصر إنما بناها الصحابة، ممن قادوا جيش الفتح الإسلامى. معتبرا إجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو فى قوة السنة، فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول، كما احتج الإمام الليث على من هدم الكنائس بقوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا».