محمد الدسوقى رشدى

عن الزناتى وكل زناتى من السيرة الهلالية إلى الدراما «الماسخة»

الخميس، 24 مايو 2018 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هى أم الأساطير الشعبية، حدوتة «كومبو»، لا تكف عن إنجاب أساطير صغيرة تسير فى ذيلها، تحمل كل جماعة إنسانية مختلفة قصة منها وتنميها لتصنع منها أسطورتها الخاصة.
 
«السيرة الهلالية» فى جنوب مصر غير التى فى شمالها، ومختلفة قطعا عن التى تنتشر فى ربوع المغرب العربى، بداية من ليبيا وتونس، وحينما تتجه إلى شبه الجزيرة العربية وجنوبها ستجد أسطورة أخرى فى انتظارك.. كلهن متشابهات، وليدات نفس المنبع ويحملن نفس الرائحة، ولهن نفس التأثير القوى فى قلوب الناس، ولكن لكل واحدة منهن نكهة مختلفة وبطلا يعلو على الآخر وقيمة تختلف عن الأخرى.
 
فى «السيرة الهلالية» أنت أمام بئر لا يخلو من الحكمة والعظة والعبر والقيم، كنز إنسانى يبنى ثقافة أمم وخيالها على أنقاض تفاصيله الدموية، ومن بين صراعاته التى لا تنتهى يظهر العديد من الأبطال، تجمعهم القوة وتفرقهم الأهداف، كل له موقعه، وكل له هدف، والأجمل أن كل بطل من أبطال السيرة يحمل للآخر من الاحترام ما لا يمكن أن تتخيل أن يحمله عدو لعدوه.
 
هذا الاحترام انتقل كإحساس إجبارى من تصرفات البطل إلى تصرفات الجمهور الذى يستمع ويستمتع بالسيرة ويتداولها، فأصبح سهلا أن تجد كل هذا الاهتمام والحب من جانب جمهور السيرة فى مصر والمشرق العربى عموما، بالبطل «الزناتى خليفة» رغم أنه عدو بطل السيرة أبوزيد الهلالى.
 
وهل منح أحد الخيال الشعبى المصرى هذه الجرعة من الشجاعة والفروسية بمقدار ما فعله «الزناتى خليفة»؟ لا أعتقد ذلك، وإلا لما كانوا قدروه كل هذا التقدير، واستخلصوا من دوره فى السيرة الهلالية كل هذه القيم.
 
أنت هنا أمام نموذج رائع للشجاعة والرجولة، يبحث عنه سكان تلك الأوطان المغلوبة على أمرها، يبحثون عن حاكم شجاع بطل يدافع عنهم قبل أن يدافع عن الأرض، شخصية كاريزمية تبحث عن المجد والبطولة لتلهم الشعوب المطحونة طريقة تستكمل بها الحياة وتتغلب على صعابها.
 
رجل أحبه المصريون رغم أنه لم يكن بطلهم، ربما أحبوه بالإيحاء نظرا للاحترام الذى أبداه «أبوزيد الهلالى» للزناتى خليفة حاكم تونس وفارسها.
يظهر فى الجزء الثانى من السيرة الهلالية إن كان لنا أن نقسمها إلى أربعة أجزاء.. الأول الذى يولد فيه أبوزيد ويبدأ صراعه فى سبيل إثبات وجوده، ثم مقتل الجيل الأول على يد حنظل العقيلى، وبعدها زواج الأبطال أبوزيد وحسن السلطان ودياب، وفى الجزء الثانى يذهب أبوزيد وأبناء أخته الثلاثة يونس ومرعى ويحيى لأرض تونس ليواجهوا مغامرات مختلفة، وفى الجزء الثالث الذى يعرف باسم «التغريبة» يتجلى بالظهور البطل الأسطورى «الزناتى خليفة» مواجها العرب الهلالية الذين ظلوا أربعة عشر عامًا على أسوار تونس محاربين للزناتى ومحاصرين له حصار ا ينتهى بنفس النهاية الدراماتيكية التى يلقاها الأبطال وهى الموت بالخيانة.
 
وعندما يدخل أبوزيد ورفاقه على الزناتى يحبسهم فى قبو قصره، وكان للزناتى ابنة اسمها «سعدى» وتلقب بـ«الصفيرى» وكانت كاهنة عالمة ورأت أن بنى هلال يغزون ديارها، وأن قاتل أبيها من بنى هلال واسمه دياب، دخلت سعدى على أبوزيد ورفاقه فى السجن وقالت لهم أعلم من تكونون، فاعترفوا لها وطلبوا منها المساعدة، فقالت أساعدكم لكن بشرط أنكم إذا غزوتم ديارنا سيكون معكم فارس اسمه دياب «ابن أخت أبوزيد» سيقتل أبى، وإذا عاهدتمونى أنكم تزوجوننى به، أساعدكم، فوافقوا على طلبها وأقنعت أباها الزناتى بإطلاق سراح أبوزيد، ثم بدأت الحرب وتحققت النبوءة وقتل دياب بن غانم الزناتى خليفة.
 
لحظة القتل هنا، لم تمر عبثا لأن «الزناتى خليفة» لم يكن شخصية عبثية، فلقد كان بطلا، وقدر الأبطال أن يكونوا ملهمين حتى فى لحظة موتهم، فأنشد يقول:
يقول الزناتى والزناتى خليفة/ نفس الفتى لا بدها من زوالها
يقول وقلبه طار من مستقره/ الأيام والدنيا سريع زوالها
الأيام والدنيا كفى الله شرها/ تطوى عزيزا ثم تطوى أرذالها
فى رملـة البيضا ودنية منيتى/ فى يد دياب ليت أبـا زيد نالها
ألا يالزناتيات ابكوا خليفة/ وقولوا واخراب الدار عقب اعتدالها.
القراءة المختلفة للسيرة الهلالية تأتى من تلك النقطة التى تبدأ فيها فى السؤال عن بطل السيرة لدى جمهور المشرق العربى فتأتيك الإجابة.. «أبوزيد الهلالى سلامة». وما إن تعبر ليبيا، متجها غربا إلى تونس وما بعدها، حتى تكون الإجابة على نفس السؤال بأن البطل هو «الزناتى خليفة».
 
فى المغرب العربى بطل السيرة هو زناتة.. «الزناتى خليفة» الذى وقف يدافع عن أرضه تونس وبلاده، ضد الغزاة الغاصبين، والذين جاءوا ليستولوا على الأخضر واليابس.
 
هذا النموذج قدمته السيرة الهلالية للخيال الشعبى المصرى، فلم يرفضه، رغم أنه كان الخصم، بل على العكس تماما احتفى به ورفعه لنفس منزلة بطله أبوزيد الهلالى حتى أنك تجد فى الرواية الشرقية من أبيات المديح فى مآثر وشجاعة وقوة وجسارة «الزناتى خليفة» ما قد يفوق ما هو فى رواية أهل المغرب.. وخد عندك هذه الأبيات التى جاء فيها التالى عن الزناتى خليفة وكيف يراه أهل مصر:
جالس على الكرسى «خليفة» الغندور
راجل منظره يهيب الأسْودة
بطل المغارب نعم وعنده شعور
يا ما فيه ناس حسودة وحقودة..
بطل الجنوب وحامل الأمل.
من عند هذا المنعطف فى الأحداث تكتسب السيرة الهلالية أهميتها، القيمية والأخلاقية، فقبل أن تكون السيرة بكل تفاصيلها الدموية والدرامية مادة مشوقة ومسلية، ومخصبة للخيال الشعبى المصرى، هى أيضا مادة معلمة وملهمة للعقول والقلوب من قبلها، الزناتى خليفة وأبوزيد الهلالى كل يقدر بطولة الآخر، مع الاحتفاظ بكونه العدو، كلا البطلين لا ينكر قيمة الآخر، بل إن بطلا لا يواجه آخر فى السيرة إلا ويعظم من قيمة خصمه، ربما يكون ذلك لمضاعفة قيمة الانتصار عليه، وربما يرجع ذلك إلى أخلاق الفرسان، وشهامة أولاد البلد التى افتقدناها مؤخرا.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة