قبل أن أغادر المرحلة الابتدائية، كان الموت قد ترك جرحًا غائرًا فى حياتى، عندما أخذ غدرًا صديقى زينهم عبدالله، فتعلمت مبكرًا أن الموت والحياة وجهان لعملة واحدة، وأن الحياة تخبئ الموت دائمًا أسفل ثيابها.
لم يكن زينهم من قريتى، كان من القرية التى بها المدرسة، لكنه فى فترة ما، طلب أن يسير معى بعد نهاية اليوم الدراسى، وقال إنه ذاهب إلى بيت أخواله فى قرية بعيدة، سرنا معا حتى التقى خاله، كى يأخذه إلى أمه، التى تعيش فى بيت أهلها، وبالطبع لم أسأله عن الأسباب، فقط اعتدت أن يترك زينهم قريته ليسير معى، وأنا فرح لأنه يفعل ذلك، لقد كان خفيف الروح بشكل لا يصدق.
فى الإجازة المدرسية كنا جميعًا نقضى الأيام عملًا فى الحقول ولعبًا على ضفاف النيل وقراءة لما تيسر من الكتب البسيطة، لكن زينهم كان يذهب إلى أبيه وأعمامه فى القاهرة، يظل هناك الصيف كله، ويعود فى بداية العام الدراسى، بملابسه الجميلة النظيفة، لكنه ذات مرة حزينة ذهب ولم يعد.
لما عدنا إلى المدرسة كان الحزن يخيم على الجميع، ورغم أننا عرفنا بموته منذ فترة لكن اليوم الأول كان حزينا بالنسبة لنا كأنه مات الآن، حينها وللمرة الأولى فكرت فى والدته كيف عاشت من بعده وكيف حزنت عليه؟
من الأشياء الجيدة أن ذاكرتى لا تزال ورغم مرور السنوات محتفظة بصورة لزينهم وقد تجاوزنا معا قريته وقريتى وظللنا سائرين مسافة بعيدة فى انتظار خاله الذى جاء راكبا «عجلة» لكنه قبل أن يصل إلينا لعب مثل بهلوان ماهر بـ«العجلة» على الأسفلت فضحكنا، وظلت ضحكته عالقة فى ذاكرتى وحتى الآن، هل كانت هذه هى المرة الأخيرة التى شاهدته فيها، لا أعرف بالضبط لكن بينى وبين نفسى أيقنت أن هذه هى المرة الأخيرة.
ظل جرح غياب زينهم رغم السنوات الكثيرة التى مرت، لم يندمل، لأنه فاجأ طفولتى بمعنى مغاير للموت، فمن قبلها لم يقترب الموت منى بهذا الشكل، كنت أظن أن كبار السن والمرضى فقط هم الذين يموتون، ولم أستوعب أبدا أن سيارة طائشة من الممكن أن تقلب كل الحقائق رأسا على عقب وتأخذ زينهم فى طريقها، فأتذكره دائما، وأنا أردد كلمات محمود درويش «والموت مثلى لا يحب الانتظار».