نساء على رقعة الشطرنج.. مريم.. رسولة الصمت.. لم تكلم إنسيًّا وتحصنت بالسكوت فآمنت دون شك وامتثلت لأمر ربها دون جدال واعتصر قلبها دون صرخة تريحه فتكلمت عنها البشرية

الأحد، 27 مايو 2018 12:08 م
نساء على رقعة الشطرنج.. مريم.. رسولة الصمت.. لم تكلم إنسيًّا وتحصنت بالسكوت فآمنت دون شك وامتثلت لأمر ربها دون جدال واعتصر قلبها دون صرخة تريحه فتكلمت عنها البشرية السيدة العذراء مريم.. رسولة الصمت
دينا عبدالعليم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

- اعتكفت فى محرابها صغيرة دون أن تشتهى أو تطلب أو تتمنى والزهد يملأ قلبها واليقين سلاحها الذى تواجه به العالم

 
نسير فى الحياة عبر رقعة كبيرة مقسمة بالتساوى إلى مربعات، بعضها ناصع البياض وبعضها قاتم سواده، وعليها يقف البشر وفقًا لقلوبهم، فمنا من منحه الله قلبًا أبيض وسيرة عطرة، فوضعه التاريخ فى موضعه على الرقعة البيضاء، ومنا من تملك السواد من قلبه فكانت الرقعة السوداء مصيره، وبين كل هذا نسوة أثرن فى الحياة خيرًا وشرًا ووقفن داخل الرقعتين أو تنقلن بينهما، ومن خلال هذه السلسة نحاول النظر إلى سيرتهن نظرة أخرى دون الحكم على واحدة منهن أو التأثر بإيمانها أو كفرها، فقط نتناول سيرتها كأنثى أثرت فى الحياة، ولكم وحدكم الحكم.
 
 
 
الصمت فى مواجهة القبح أمان، وفى مواجهة الظلم انتصار، وفى مواجهة اليتم سند، الصمت فى مواجهة الغربة ونس، وفى مواجهة القهر قوة، الصمت فى مواجهة الاتهام والتخوين والتعذيب وكسرة القلب على الأحبة هو قمة الإيمان وقمة اليقين، هو السلاح الذى يجبر العالم على التحدث عنك وعن قوتك، دون أن تدافع أو تصد أو حتى تطلق صرخة واحدة تعبر عما يشتعل بصدرك من نيران، الصمت هو السلاح الذى استخدمته السيدة المؤمنة سيدة نساء العالمين مريم ابنة عمران التى اعتكفت وزهدت وفزعت وواجهت وصدت وتحملت واغتربت وأمنت واعتصر قلبها ألمًا على فلذة كبدها فى صمت يختفى وراءه إيمان وبقين لم ينزل لهما مثيل فى قلب بشر.
 
الحقيقة أن الكلمات تعجز عن الوصف، فماذا نقول عن إيمان سيدة هى من نسل أبى الأنبياء سيدنا إبراهيم، ومن سلالته، حتى أبوها عمران؟ ماذا سنقول عن أخلاق ابنة حنة السيدة المؤمنة التى حرمت من الإنجاب فطلبت من ربها بأدب لا مثيل له، أن يهب لها ذكرا صالحا وقطعت عهدا ان تنذر هذا الولد لله فتربيه عاكفا عابدا زاهدا، فاستجاب ربها لها لكن وهبها بنتا سمتها مريم وتقبل الله نذرها فى الوقت الذى كان الاعتكاف مقصورا على الرجال، لكن الله أراد أن تكون أنثى وتعتكف.
 
 يموت أبوها وهى فى بطن أمها ويتكفلها زكريا زوج خالتها، حتى يتولاها هو بجلاله وسلطانه وملكوته ويرعاها بذاته المقدسة ويشملها بنوره، ويجهزها للدور الأهم والأعظم فى تاريخ البشرية، لتصير أما لكلمته عيسى، وأما للبشرية تعلمهم الصبر واليقين والإيمان.
 
اعتكفت السيدة العذراء وهى فى عمر صغير فى المِحْراب لا تعرف من الحياة سوى الصلاة والصوم والسهر ليلا مناجاة للرب، لا تطلب شيئا ولا تشتهى نفسها شيئا، لا تعترض ولا تتذمر، بل لا تبادر حتى بالحديث إلى أحد، فإن حاولت جاهدا البحث عن كلمات السيدة مريم وأقوالها فلن تجد منها سوى القليل جدا، إجابات صريحة وواضحة ومقتضبة عن أسئلة موجهة إليها، فعندما دخل عليها سيدنا زكريا المِحْراب ووجد عندها الطعام والشراب سألها: يامريم من أين ذلك؟ فردت بقول واحد: «هو من عند الله»، وظلت فى محرابها تتعبد وتتقرب لربها حتى هبط عليها جِبْرِيل عليه السلام بالوحى، أبلغها أن الله اصطفاها وكرمها واختارها عن العالمين، لتكون أما لغلام مصيره النبوة ومصيرها معه الاتهام والغربة والألم، فزعت مريم برؤية جِبْرِيل ولما سمعته، فسألته: كيف يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر؟ فقال لها: هو من عند ربك، وسيكون نبيا على العالمين، فتحصنت مرة أخرى من الرهبة والخوف بالصمت ولم تتحدث لبشر حتى جاءها المخاض فوضعت عيسى وحدها فى صمت، وتقبلت قضاء الله بإيمان دون جدل أو اعتراض.
إن تأملت هذا الموقف فستجده أكثر ألما وفزعا ورهبة مما تتصور، فمريم تقف اليوم يتيمة بلا سند، تواجه الوحدة والخوف من العار ووجع المخاض وغموض المستقبل، عذراء تلد صبيا ويطلب منها أن تذهب به لقومها فى صمت، هنا تنهار قواها وتتمنى الموت قائلة «ياليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا»، فسمعت صوت الرحمن يطمئنها بعد الولادة، هزى النخلة تساقط عليك بالتمر الرطب، فكلى واشربى ولا تفزعى، وإن سألك بشر فقولى لهم «إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا»، أوصاها الله بالصمت وكأنما هو من أوصاها بالصمت قبل ذلك وبعده، وكأنه خصص لها الصمت سلاحا وصديقا ووسيلة للإيمان التام واليقين المطلق.
 
امتثلت مريم لأمر ربها، واجهت قومها بصغيرها فأنكروها وتساءلوا كيف يكون لك غلام وأنت غير متزوجة ومن سلالة طاهرة؟ كيف جئتِ الفاحشة؟ فردت مرة أخرى عليهم بالصمت وأشارت لعيسى فتحدث نبى الله وهو فى المهد، قائلا إنى عبدالله النبى المنتظر، فصدقها من صدق واتهمها من اتهم، فكان الصمت حليفها كالعادة، وبعدها قررت الفرار بصغيرها وصحبة يوسف النجار إلى مصر، هربا من بطش اليهود، وخوفا على عيسى من القتل، بعد أن قرر هيرودس ملك اليهود فى القدس قتل كل مولود جديد خوفا على عرشه فور انتشار خبر النبى الذى سيظهر فى بنى إسرائيل، ففرت إلى مصر فى الرحلة المشهورة عبر التاريخ برحلة العائلة المقدسة، وعاشت فيها حتى سمعت نبأ وفاة الملك هيرودس فقررت العودة إلى بيت لحم، وهى تعلم أن العودة تعنى انطلاق رسالة عيسى وبدء المواجهة بينه وبين طغاة الرومان وملوك اليهود، عادت وهى على يقين بما ستواجهه من ألم، لكنها تعلم أنه مصيرها الذى تواجهه بقوة وجسارة.
 
انطلقت دعوة عيسى وكانت خير سند له، مع أصحابه وتابعيه مجموعة الحواريين، وظل يدعو ويحارب ويواجه ويصمد وهى صامته مؤمنة بلا خوف، بلا جدال، بلا شك، حتى كان الوجع الأعظم لها بخيانة يهوذا لعيسى، فأشار إلى ملوك الرومان واليهود بمكان النبى وقبضوا عليه وسحلوه وصلبوه وعذبوه لساعات طويلة، فى مشهد لا يمكن لقلب أم أن تشاهده، فلك أن تتخيل الوجع الذى نشعر به نحن بعد آلاف السنوات عندما نشاهد مشهدا لمدة دقائق يجسد عملية صلب المسيح، وتعذيبه، قلوبنا الضعيفة لا تحتمل المنظر، فما بالك بأمه التى رأت المشهد كاملا لمدة يقال إنها تجاوزت الست ساعات؟ انفطر قلبها ونزلت كل ضربة على جسد عيسى طعنة فى قلبها الرقيق، وكل قطرة دم تنزف منه أنهارا تسيل من قلبها، لا يمكن وصف ما شاهدته بالألم أو اعتصار القلب، هو أقوى وأعظم من ذلك بكثير، ويمكن الحسم بأن العذاب الذى واجهته سيدتنا العذراء فى هذه الواقعة أعظم وأقوى عذاب واجهه بشرى، واللافت أن مريم واجهته بصمت تام كعادتها، دون أن تطلق صرخة واحدة، دون أن تتأوه أو تصرخ، حتى مات ولدها وأسقطوه من على الصليب، فارتمت بجواره تمسح دماءه من على جسده، وقامت بمساعدة الحواريين فى تغسيله ودفنه.
 
الحقائق حول وفاة عيسى وهل هو من تعرض للصلب بالفعل لخلاص البشرية أم أن الله رفع روحه للسماء وأحل بجسده روح يهوذا الخائن، هل هو الإله أم ابنه، أم ابن ليوسف النجار، هل قام من الموت بعد دفنه؟ كلها اختلافات فى روايات لم نتطرق إليها، لأنها اختلافات فى صلب عقيدة كل منا، والجدل حولها لن يفيد، فى النهاية قلب كل بشرى يحمل إيمانا وعقيدة لن يتخلى عنها بسهولة، كذلك فإن الاختلاف حول هذه الروايات لا علاقة له بتفاصيل حياة مريم ويقينها التام، وإخلاصها وصلابتها التى استكملت بها رحلتها فى الحياة بعد صلب ووفاة ولدها عيسى، حيث عاشت بعده حوالى خمس أو ست سنوات، ماتت بعدها وتركت خلفها سيرة تعلمنا الصبر واليقين والإيمان والطهر والعفة، فكانت مريم وستظل، السيدة الأقوى إيمانا ويقينا منذ خلق الله آدم وحتى يوم البعث، لذا كرمها الله وكانت الأنثى الوحيدة التى لها سورة فى القرآن الكريم باسمها وسط العديد من السور التى تحمل أسماء الأنبياء، ذلك لأنها لا تقل فى المكانة ولا القدسية عنهم، بل والحقيقة أنها تحملت بصبر ويقين ما لا يتحمله بشرى، وصمتت فى مواجهة العالم ليتحدث العالم عنها.
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة