شاعر يرى العالم بقلبه ووجدانه، حالم بعالم حر يتساوى فيه الفقير والغنى والعبد والسيد، فقيه فى دينه، صلب فى محاوراته بما أعجز عنه خصومه وأعيا مناوئية، هو ابن حزم الظاهرى «384هـ : 456هـ» الذى نشأ فى عصر الدويلات الإسلامية بالأندلس والذى لم تقتنع روحه الطلوق بتعاليم مذهب فقهى واحد مهما كان عظيما، فقد نشأ مالكيا يتبع مذهب الإمام مالك، ثم تقلب بين مذاهب السنة، ودرس المذهب الشافعى، وأعجب فيه بتمسك الشافعى بنصوص السنة وأحكام القرآن الكريم، ولكنه بعد أن تقلب بين المذاهب وعرفها وخبرها اختط لنفسه منهجا آخر، مخالفا كل ما درسه من فقه، ومفيدا من خبراته المتراكمة ، فاختار طوعا أن ينتهج منهج الإمام داود الأصفهانى صاحب المذهب الظاهرى، مسقطا عن الكهنة أقنعتهم، ورافضا احتكارهم التحدث باسم الدين، وأجاز لكل فاهم للعربية أن يتكلم فى الدين بظاهر القرآن والسنة، مخالفا فى فقهه المذاهب الأربعة «المالكى والحنفى والشافعى والحنبلى» قائلا إن هؤلاء الأئمة قد عنوا بالاستنباط من الكتاب والسنة، بينما هو يأخذ أحكامه من الكتاب والسنة مباشرة، وفى حين أخذ كل الأئمة بقول الصحابة وأحكامهم امتنع ابن حزم عن تقليدهم فى آرائهم، حتى لو كان صحابيا، وكان لا يصرح لأحد أن يقلد أحدا حتى لو كان صحابيا.
ويبدو أن الإمام كان مجبرا على هذا الاتجاه لما رآه بعينه من تلاعب الفقهاء بالنصوص الإسلامية وإهمالهم لها، فى سبيل إعلاء رأيهم الذى كان فى الغالب ينفذ رغبات الحكام وأهواءهم، فقد شهد هذا العصر انتهاكا لحرمة القضاء بشكل مريب، وانتشرت ظاهرة تأجير منصب «القاضى» بما يسمى «الضمان»، والضمان هو أن يدفع القاضى مبلغا ماليا مقدما كل سنة أو كل شهر للوالى ليضمن ألا يعزله، صار ذلك أمرا مألوفا، كما صاروا يضمنون الشرطة والحسبة، وكان هذا بداية ما قال عنه أحد المؤرخين «خراب الفقه بل الإسلام، ففساد الدين الطمع، وصلاحه الورع».
والناظر إلى هذا التوجه فى الفقه الإسلامى ربما يتوهم أنه كان توجها ضيقا، وذلك لعدم اعترافه بأى شىء سوى النص، لكن فى الحقيقة فقد كان ابن حزم من أكثر الفقهاء اعتدالا وإدراكا لمتغيرات العصر وانفتاحا على فهم النصوص الإسلامية، فهو يرى مثلا أن الموسيقى ليست محرمة على الإطلاق، بل يرى أن الاستماع إلى الموسيقى مباح مثل التَّنَزُّه فى البساتين ولبس الثياب الملونة، أما الأحاديث التى وردت فى النهى عنها فيقول ابن حزم إنها ليست صحيحة فى مجملها، وإن أغلب الأحاديث التى حرمت الموسيقى، إما موضوعة أو منقطعة، واحتج على مخالفيه بحديث أم المؤمنين عائشة، رضى الله عنها، أن جاريتين كانتا تغنيان فدخل أبوبكر فنهرهما وقال: أبمزمور الشيطان فى بيت رسول الله؟ فقال الرسول: «دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد». ومن المعلوم أن العيد لا يحل الحرام. وقد رد بعضهم الاستدلال بهذا الحديث بأن هذا غناء بلا آلات، وهذا خطأ، لقوله: أبمزمور الشيطان؟ إذن هى مزامير. ولو قبلنا أن المقصود هنا هو الدف لتوجب أن تحمل النصوص التى يحتج بها المحرمون على نفس المحمل، وهكذا أخذ يفند الأحاديث واحدا تلو الآخر، حتى إنه رد الحديث الذى رواه البخارى معلقًا فى صحيحه، وقال إنه معلق وغير مسند. والمعروف أن المعلق نوع من الضعيف.
• نشرت هذه الحلقات بشكل مطول فى رمضان 2012 تحت عنوان «فقهاء التنوير»، وأعيد نشرها احتفالًا بشهر رمضان الكريم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة