مفاجأة.. النقشبندى مثل فيلما سينمائيا لم يعرض والإذاعة أهملت أكثر من 180 ابتهالا من روائعه
- أسرار علاقته بالسادات وأم كلثوم وبليغ حمدى والشيخ الشعراوى
خرج الشيخ من مسجد التليفزيون يوم الجمعة بعد أن قرأ القرآن بصوته الملائكى للمرة الأخيرة، كان مسرعا هذه المرة على غير عادته ولم يسافر إلى بيته فى طنطا مباشرة، شعر أن هناك مهمة أخيرة يجب أن يقوم بها، فأسرع إلى منزل شقيقه بالعباسية، وفور دخوله طلب ورقة وقلم، تعجب الأخ ولكنه لبى طلب شقيقه، جلس الشيخ بمفرده للحظات، وكتب أسطرا قليلة بالورقة، ثم وضعها فى ظرف وأعطاها لأخيه، وأخبره ألا يفتحها إلا وقت اللزوم، وانصرف مسرعا.
اصطحب قيثارة السماء الشيخ سيد النقشبندى بطانته «الكورس أو السنيدة الذين ينشدون معه»، وعاد إلى بيته بطنطا، ولم تمر إلا ساعات قليلة حتى شعر ببعض الألم، وذهب على قدمه إلى مستشفى المبرة بطنطا، وأثناء قيام الطبيب بالكشف عليه صعدت روحه إلى بارئها، ولفظ أنفاسه الأخيرة فى سن 55 عاما، لتفقد مصر والعالم قيثارة السماء، الصوت الذى لم يجد الزمان بمثله، ويكتشف الجميع أن الورقة التى كتبها قبل ساعات من وفاته كانت وصيته، وكأنه عرف أنه اقترب من لقاء وجه الله الكريم الذى طالما رقق القلوب والآذان بذكره.
يجلس الحفيد سيد شحاتة النقشبندى الذى يعمل أمين مخزن بأحد مصانع الملابس بالعاشر من رمضان والتى نزح إليها قادما من طنطا عام 2002 بحثا عن مصدر رزق ليتذكر حياة جده ومسيرته وروائعه وأحزانه، يكشف الحفيد فى حواره معنا عددا من المفارقات والأسرار التى لا يعرفها أحد عن حياة جده وحياة أسرته البسيطة التى عانت من بعده، يتحدث عن كنوز وروائع صعدت بمن يسمعها إلى السماء، فمن منا لم يحلق فى عالم آخر حين يسمع رائعته «مولاى إنى ببابك»، أو ابتهالاته التى تشعر بأنها أصوات ملائكة السماء تسبح وتذكر اسم الله.. وفى السطور التالية يكشف سيد شحاتة النقشبندى سر الوصية التى كتبها قيثارة السماء قبل ساعات من وفاته، وأسرار حياته العائلية وعلاقته بعمالقة الفن والأدب، وقصة ارتباطه بالسيد البدوى، ويفجر عددا من المفاجآت حول تراث جده المهمل وكنوزه وروائعه التى لم تصل إلى آذان عشاقه، ومنها فيلم قام بتمثيله ولم ير النور وغيرها من التفاصيل والأسرار.. وإلى نص الحوار:
حدثنا عن نشاة وطفولة الشيخ سيد النقشبندى!
- جدى من مواليد عام 1921 بقرية دميرة التابعة لمركز طلخا بالمنصورة محافظة الدقهلية، وكان والده الشيخ محمد النقشبندى إماما وواعظا دينيا يؤم الناس ويخطب الجمعة، وبعد مولد جدى بـ4 سنوات حدث الطلاق بين والده ووالدته السيدة «قسمة»، وانتقلت الأم بابنها إلى مسقط رأسها بطهطا محافظة سوهاج، وتزوجت الشيخ الموردى الذى ربى الشيخ سيد، وحفظ جدى القرآن على يد الشيخ أحمد خليل، وأتم حفظه فى سن 10 سنوات، وأصبح للشيخ سيد إخوة من الأم والأب، ودرس بالأزهر ولكن لم يلتحق بكلية، وكان والده يعيش فى وجه بحرى، حيث انتقل إلى قرية سجين بالمنوفية، وكان الشيخ سيد يزوره دائما ويذهب معه لزيارة الأولياء الصالحين.
وماذا عن قصة زواجه، وبداية شهرته؟
- عندما أصبح شابا زوجه والده من ابنة أخته، وأقام جدى فى قلين بكفر الشيخ وأنجب كبرى بناته، وهى أمى ليلى، وبعدها سافر إلى طهطا ليعيش مع والدته، وأنجب باقى أبنائه محمد وأحمد وسعاد وفاطمة، وفى إحدى الليالى حلم برؤية السيد البدوى يقول له: «تعالى اقعد معايا ياسيد»، فأخذ أولاده وزوجته وذهب إلى طنطا، وعاش فى بيت إيجار مواجه للسيد البدوى وظل مقيما بطنطا حتى وفاته، وكان وقتها ينشد فى الليالى وذاعت شهرته قبل أن يعرف الإذاعة، ووصلت هذه الشهرة إلى بعض الدول العربية، حتى إنه عندما سافر للحج قابل هناك مشايخ وأدباء سوريين ودعوه لزيارة سوريا، فزارها عام 1957 وتم استقباله استقبالا كبيرا، وعثرنا على تسجيلات له خلال هذه الرحلة، حيث قابله الشيخ محمد جميل العقاد، أحد كبار الأدباء، ومن خريجى الأزهر، وكان يكتب شعرا فى حب الشيخ سيد ومنها قصيدة «العود الحميد» مسجلة بصوته، وذاعت شهرة جدى فى سوريا قبل أن تعرفه الإذاعة، وكان جدى يعرف أدباء كثيرين فى مصر مثل محمد على ماهر المؤلف والكاتب الإسلامى، والسيد ندا الشاعر المتصوف وغيرهم.
وكيف بدأت رحلته بالإذاعة؟
تعددت الروايات حول بداية دخوله للإذاعة، حيث قال الموسيقار حلمى أمين، إنه هو الذى اكتشفه عندما سمعه فى عزاء، وأعجب بصوته ووجد فيه إمكانيات ومساحات صوتية نادرة، بينما قال المذيع أحمد فراج إنه هو الذى اكتشفه بالصدفة وقدمه للإذاعة بعدما سمعه بالصدفة يبتهل فى الحسين بعد صلاة الجمعة، فدعاه للإذاعة حتى يسمعه بابا شارو.
حدثنا عن بداية علاقته بالرئيس السادات وإعجابه بصوته قبل أن يتولى الرئاسة؟
- السادات سمع جدى فى مسجد الدكرورى بالسويس قبل توليه الرئاسة، وسمعه من خارج المسجد بسبب شدة الزحام، وبعد أن أصبح رئيسا تحدث مع طبيبه الخاص الدكتور محمود جامع- وهو من طنطا، وكان يعرف جدى- عن مدى إعجابه بصوت الشيخ النقشبندى، فأرسل فى طلبه من طنطا إلى ميت أبو الكوم، واعتاد أن يرسل له ليسمعه كلما زار ميت أبو الكوم، ودعا السادات جدى فى فرح ابنته بالقناطر، وأثناء الحفل نادى الرئيس بليغ حمدى فى وجود وجدى الحكيم، وقال له عاوز أسمعك مع النقشبندى، وحينها خاف جدى أن يلحن له بليغ وهو مشهور بالألحان العاطفية، وكان الشيخ يتعامل مع الملحن حلمى أمين الذى كان يميل للون الدينى، واتصل جدى بوجدى الحكيم، وقال له أنا قلقان من بليغ، فاقترح عليه الحكيم أن يسمعه أولا ثم يقرر، فسمعه جدى فى لحن مولاى وأعجبه، وبعدها قال: بليغ ده جن، وسجل معه 15 ابتهالا من كلمات الشاعر عبدالفتاح مصطفى فى عام 1971 من أجمل ابتهالاته، ومنها مولاى وأشرق المعصوم ويارب كرمك علينا وذكرى بدر عام 1971، ولم يحصل جدى أو بليغ على أجر مقابل هذه الابتهالات، وكان جدى يحب الرئيس السادات ويدعو له.
ولماذا لم يفكر الشيخ النقشبندى فى أن يقيم بالقاهرة خاصة بعد شهرته واعتماده وتعاونه مع الإذاعة؟
- كان أبناء الشيخ يلحون عليه بعد اعتماده فى الإذاعة أن يأخذ سكنا فى القاهرة رأفة به من مشقة السفر اليومى من وإلى طنطا ليكون قريبا من عمله، ولكنه رفض وقال لن أبتعد عن السيد البدوى، وحكى لهم أنه رأى فى المنام أنه يحاول الخروج من البيت، ولكن يمنعه جمل وقف على باب البيت ورفض خروجه، وقال له مفسرو الأحلام إن هذا الجمل ولى من الأولياء وهو السيد البدوى ويرفض أن تبتعد عنه.
وكان بيت الشيخ بجوار مقام السيد البدوى فى زاوية القصبى، وكان بيتا قديما من البيوت الواسعة، وبه مندرة مفتوحة باستمرار لإطعام الفقراء القادمين من كل المحافظات لسماع الشيخ، ورغم أن جدى كان يكسب كثيرا بعد شهرته، فإنه كان ينفق كل ما يحصل عليه على الفقراء، وكان يوميا يعود إلى بيته ليجد على مداخل البيت وسلالمه العديد من الفقراء، فيوزع حصيلة ما جمعه عليهم، ولا يبقى معه إلا بعض المال يعطيه لزوجته لإعداد الطعام للزائرين من كل المحافظات.
واعتاد جدى أن يعود من ليلته ويصلى الفجر وينام، ويصحو قبل الظهر ليجلس فى المندرة مع بطانته، ومنهم شقيقاه الشيخ إبراهيم والشيخ حسين، وباقى بطانته الشيخ حامد الزفتاوى والشيخ محمد أبوليلة، وكانوا يلازمونه فى كل مكان، وكانوا يجلسون فى المند رة ويقيمون الذكر والتواشيح، وكان جدى يحفظ أشعارا كثيرة ويرتجل الألحان، وكانت هذه الجلسات الفنية مفتوحة يسمعها زوار المندرة.
حدثنا عن علاقته بالمشاهير وعمالقة الفن؟
- كان جدى يحب أم كلثوم جدا، وقال إنه كان يقلدها وهو شاب ويغنى أغانيها وخاصة رباعيات الخيام، وولد الهدى، وبعد شهرته جاءت أم كلثوم فى زيارة لطنطا، وقابلها جدى فى غرفة الإمام بمسجد السيد البدوى وزارت مقام السيد البدوى ومقام سيدى عبدالمتعال، ودعاها لزيارة أسرته فى البيت، حيث كانت أمى تحبها جدا وتغنى أغانيها لأنها كانت تتمتع بصوت جميل، ولكن جدى رفض أن تسلك ابنته مجال الطرب والفن، رغم أن صديقتيها زينب يونس وياسمين الخيام سلكتا هذا الطريق، وجاءت أم كلثوم إلى البيت واستقبلها أبناء الشيخ وزوجته استقبالا حارا، كما ربطت جدى علاقة قوية ببليغ حمدى وكان يزوره فى البيت، كما كان من أصدقائه وجدى الحكيم، وعدد كبير من المؤلفين والشعراء، وكان الشيخ الشعراوى من أقرب أصدقائه، ولهما صور فى رحلات إلى بورسعيد فى الصيف.
وما أصعب المواقف فى حياة الشيخ النقشبندى؟
- أصعب المواقف التى مرت على جدى وفاة شقيقه الشيخ إبراهيم النقشبندى الذى كان رفيق رحلة كفاحه، وكان دائما إلى جواره ويسانده فى البطانة، وتوفى بشكل مفاجئ أوائل السبعينيات وأثرت وفاته بشكل كبير على جدى، وبعد هذا الحدث أصيبت جدتى زوجة الشيخ وابنة عمته بالسكر و«الغرغرينا» وتم بتر أصابعها، وتوفيت بعد شقيقه بعام واحد، وكانت والدتى تحكى عن والدتها أنها شخصية جميلة وتشبه جدى فى الطيبة والأخلاق والسلوك، وكان يحبها حبا شديدا وتأثر بوفاتها، وحزن جدى حزنا شديدا، وشعر أن أحبابه يذهبون، وعرض عليه أبناؤه الزواج، بعد وفاة والدتهم، وبالفعل زوجوه من سيدة من المنصورة، وعاش فى نفس بيته بطنطا، وقبل وفاته بعامين تصدع البيت، فعرض عليه المحافظ شقة من شقق المساكن الشعبية بمنطقة قحافة وسكن فيها جدى وتوفى بعدها بعام، وأنجب من زوجته الثانية ثلاثة أبناء، ولدين وبنتا، إبراهيم ورابعة والسيد، ولكنه توفى قبل ميلاد ابنه الأصغر السيد وترك والدته حاملا فيه، بينما كان عمر إبراهيم لا يتجاوز 3 سنوات ورابعة «عام ونصف»، وعندما مات لم يكن فى جيبه سوى 3 جنيه ولم يترك أرضا أو بيتا أو أموالا، حيث كان ينفق كل ما يأتيه على الفقراء، وكان يقول دائما: الله أكرمنا كى نكرم خلقه، وكانت تأتيه دعوات من البلاد العربية والملوك والأمراء ودعاه الملك فيصل فى السعودية، كما سافر إلى الإمارات بدعوى من آل نهيان، ولو طلب أى شىء كان سيجاب.
حدثنا عن وفاة الشيخ النقشبندى والوصية التى تركها؟
- جدى توفى بشكل مفاجئ فى 14 فبراير 1976 وكان عمره 55 عاما، ولم يكن مريضا، وقبلها بيوم واحد فى 13 فبراير كان يقرأ القرآن فى مسجد التليفزيون وأذن لصلاة الجمعة على الهواء، ثم ذهب مسرعا إلى منزل شقيقه من والدته سعد المواردى فى العباسية، وقال له «هات ورقة وقلم»، وكتب كام سطر وأعطاه الورقة، وقال له لا تقرأها إلا ساعة اللزوم ثم عاد إلى بيته فى طنطا، وتانى يوم شعر ببعض التعب، فذهب للدكتور محمود جامع فى مستشفى المبرة بطنطا، وحكى الدكتور جامع أن جدى دخل عليه على قدمه وقال له أشعر بألم فى صدرى وفاضت روحه فى غرفة الكشف خلال دقائق، وبعدها فتح أخوه الورقة فوجدها وصية كتبها الشيخ سيد يوصى فيها بأن يدفن مع والدته فى مقابر الطريقة الخلوتية بالبساتين، حيث كان متعلقا بها، كما كتب لا تقيموا لى مأتما ويكفى العزاء والنعى بالجرائد، وأوصى برعاية زوجته وأطفاله، وتصادف أثناء عودة جدى من القاهرة فى المرة الأخيرة أنه شهد سرادقا كبيرا لعزاء أحد كبار تجار الفراشة بطنطا، فقال لبطانته «إيه السرادق العظمة ده؟» وبعد وفاته كان هذا السرادق مازال مقاما وبعد أن صلى الآلاف على جدى بمسجد السيد البدوى وتم دفنه بالقاهرة، أمر المحافظ بأن يبقى السرادق مقاما لعزاء الشيخ سيد.
وكيف عاشت أسرة الشيخ النقشبندى وأطفاله من بعده خاصة أنه لم يترك أى أموال؟
- تحمل خالى أحمد نفقات أشقائه الصغار، وبمجرد أن اشتد عود خالى إبراهيم، عمل لينفق على والدته وشقيقته وشقيقه، خاصة مع عدم وجود أى مصدر دخل للأسرة، وعدم صرف معاش لجدى من الإذاعة رغم أنه كان معتمدا بها وقدم لها مئات الروائع، وعاشت أسرة النقشبندى حياة بسيطة جدا بعد وفاته، رغم أن ابتهالا واحدا من ابتهالاته كان يمكن أن تعيش بسببه الأسرة فى ثراء دائم، وكنت أول حفيد يولد بعد وفاته بأيام فأسمونى باسمه.
وهل ورث أحد أفراد العائلة جمال صوت الشيخ النقشبندى أو اتجه للإنشاد الدينى؟
- كانت والدتى تتمتع بصوت جميل وكانت تغنى أمام والدها أغانى أم كلثوم، وكان يشجعها، ولكنه رفض أن تتجه إلى الغناء، كما كان خالى محمد فنانا وملحنا يعزف على العود، ولكنه توفى مبكرا فى نفس العام الذى توفى فيه والده، أما أكثر الناس قربا من الشيخ النقشبندى وورث عنه جمال الصوت وحب الإنشاد الدينى فهو شقيقى الأكبر أحمد الذى كان أول حفيد للشيخ، وكان الشيخ النقشبندى متعلقا به بشدة ويصطحبه معه فى كل الحفلات، ولهما تسجيلات معا، وقام جدى بتحفيظه معظم ابتهالاته، وتوفى جدى وكان عمر شقيقى أحمد 11 عاما، ولكن وبنفس الطريقة مات أخى أحمد العام الماضى بشكل مفاجئ ودون مرض وعمره لا يتجاوز 50 عاما، وكان شقيقى أحمد موهوبا، ونجح فى اختبارات المهن الموسيقية أمام لجنة مكونة من عفاف راضى وحلمى بكر ومحمد رشدى.
وماذا عن تراث الشيخ سيد النقشبندى؟
- ما يعرض من أعمال جدى أقل القليل مما قدمه للإذاعة، حيث كان يقدم خلال شهر رمضان فقط 30 ابتهالا، واستمر على ذلك لمدة 6 سنوات منتظمة خلال الفترة من 1969 وحتى 1975، وكل هذه الكنوز موجودة بالإذاعة، ولكنها تهملها ولا تعرضها، وكان جدى يدون يوميا الأعمال التى يقدمها ويعطى لنفسه تقييما ودرجات، وكتب عن هذه الروائع التى قدمها للإذاعة، والمفاجأة أن جدى قام ببطولة فيلم سينمائى بعنوان «الطريق الطويل» يحكى قصة حياة منشد دينى، وكان الفيلم إخراج مصطفى كمال البدرى، وإنتاج عباس حلمى، وقدم فيه جدى عددا من الابتهالات من تلحين حسين فوزى، ولكن لسوء الحظ توفى المخرج بعد تصوير جزء كبير ومازلنا نبحث عن أسرة المخرج حتى تظهر الابتهالات التى قدمها جدى خلاله للنور، ونناشد الإذاعة الإفراج عن مئات الروائع والابتهالات المحبوسة فى الأدراج، والتى لم تصل إلى آذان محبى الشيخ النقشبندى.