الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد.
اختيار القيادات يعد أحد أكبر الاهتمامات التى تشغل المسؤولين فى العالم كله، ذلك أنهم يعتبرون المحرك الحقيقى لطاقات العامة؛ لتحقيق التقدم فى كل المجالات، شريطة أن يكون هذا الانتقاء مبنيًا على أسس علمية صحيحة تستكشف المهارات التى يتمتع بها الشخص القيادى، والوقوف على المستوى الفكرى والعملى الذى تتطلبه القيادة، والمفاضلة بينهم لاختيار الأكفأ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتلك القدرة على اكتشاف القدرات القيادية لدى أصحابه، فيصطفى من أصحابه الأفضل والأنسب والأقدر على تنفيذ المهام الموكلة إليه دون النظر إلى السن، لذا نرى النبى صلى الله عليه وسلم فى آخر حياته، وبعد أن فرغ من حجة الوداع، شد الرحال عائدًا إلى المدينة المنورة، وكان أول ما قام به بعد العودة والاستقرار، أن جهز جيشًا لمواجهة الروم واختار أسامة بن زيد الشاب الممتلئ بالطموح والقدرة- رغم صغر سنِّه- لقيادة الجيش، وكأن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم يلفت نظر المسلمين أجمعين إلى مفهوم بالغ الأهمية ذائع الصيت فى العصر الحديث، وهو مفهوم تأهيل الشباب وتمكينهم، خصوصًا أن بعث أسامة كما يروق للمؤرخين والكتاب أن ينعتوه لم يصب منه أحد بسوء وعاد الجيش سالماً غانماً، حتى قال المسلمون عنه: «ما رأينا جيشا أسلم من جيش أسامة»، شخصية اليوم أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الحِبُّ بن الحِبُّ، أبوه زيد بن حارثة الكلبى، الصحابى الوحيد الذى ذكر باسمه صراحة فى القرآن الكريم، والذى آثر النبى صلى الله عليه وسلم على أبيه وأمه وأهله، وأمه هى أم أيمن مولاة رسول الله وحاضنته، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحب أسامة حبًّا كبيراً، وكان عنده كبعض أهله، وكان يأخذه والحسن رضى الله عنهما فيقول: «اللهم أحبهما؛ فإنى أحبهما»، وكان نقش خاتم أسامة «حِبُّ رسول الله» صلى الله عليه وسلم ويهتم النبى صلى الله عليه وسلم بتربيته والعناية به وأسامة كله طموح ورغبة فى المشاركة فى الجهاد فى سبيل الله، وفى غزوة أحد يأتى ليطلب المشاركة، فينظر النبى صلى الله عليه وسلم إلى القائد الصغير وجسده الغض فيرق له ويرده، فيبكى زيد بكاء شديدًا لكن الحكمة النبوية أرادت تجهيزه للوقت المناسب فيسمح له بالمشاركة فى غزوة أحد، وتتاح له التجربة الكبرى فى غزوة مؤتة، حيث شارك تحت لِواء أبيه زيد، ويرى أسامة بعينيه استشهاد والده وانتقال الراية لجعفر ثم لعبدالله ثم لخالد فلم تفت التجربة فى عضده، بل تُعِدِّه هذه المشاهد لموقف خطير تظهر فيه مواهبه وقدراته، ذلكم يوم حنين عندما يعجب بعض المسلمين بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئًا، وتدور الدائرة عليهم فى بداية الغزوة، ويفر كثير من المسلمين من هول المفاجأة، ويثبت الشاب الفَتِىُّ مع نفر قليل من كرام الصحابة حول النبى صلى الله عليه وسلم، فيٌغَيِّر الله بهذه الفِئَة الباسِلَة الهزيمة إلى نصْرٍ، لقد استوى القائد على سوقه، لكن لا بد له من درس جديدٍ قاس، يتعلم منه الآباء والمحبون، أن المحبة لا تعنى التغاضى عن الأخطاء، بل تعنى التصويب والتوجيه والتأديب والتعليم، فالنبى صلى الله عليه وسلم لم تمنعه محبته له من أن يصوب له الخطأ ويرده إلى الحق رداً جميلاً، فذات يوم سرقت امرأة، فأسرع قومها إلى أسامة بن زيد رضى الله عنه يطلبون منه أن يشفع لها عند النبى صلى الله عليه وسلم لمعرفتهم بمحبته الشديدة له، فلما كلمه تلوّن وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: «أتكلمنى فى حد من حدود الله؟»، ثم قال: «فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، إنه الدرس الذى ينبغى للأمة كلها أن تعيه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة