هو عز الدين بن عبدالسلام، المعروف باسم العز بن عبدالسلام، أحد أكبر شخصيات الإسلام عبر عصوره، شاهد المحنة وشهيدها، المحارب بقلبه وقلمه وعقله ولسانه ويده، صاحب القلب العامر والقوة الراسخة، فقد أحد تلاميذه أمامه منبهرا بعد أن نهر الملك أمام الرعية فى يوم العيد، ليأمره بالكف عن الفواحش ومحاربة المفسدين فى بلاد المسلمين، فقال له تلميذه: ألم تتهيب من الملك يا شيخنا؟ فقال له العارف بالله والسابح فى ملكوته، والعالم بقوته وعونه وسنده: والله يا بنى لقد استحضرت فى نفسى هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامى كالقطة.
«الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح»، تلك هى القاعدة التى وصل إليها الإمام بعد تبصره واجتهاده، وفى ذلك يقول الإمام: ومن أراد أن يعرف المصالح من المفاسد فليعرضها على العقل، ويقول: إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام، والذى وضع الشرع هو الذى وضع الطب، والاثنان موضوعان لجلب المصالح ودرء المفاسد وتأسيسا على وجهة النظر هذه استنبط الكثير من الأحكام، فنهى عن المشقة فى العبادات، قائلا: إن الله جل وعلا لم يكن ليشق على عباده، تماما كما لا يقصد الطبيب أن يعذب المرضى بالدواء المر.
وفى تفضيله للمصالح فقد أمر باتباعه الأحسن مستدلا على ذلك بقول الله تعالى: «يستمعون القول فيتبعون أحسنه»، قائلا: إن إنقاذ الغرقى مقدم على الصلاة والصيام، كما أفتى بأنه لا ولاية للأئمة البغاة الذين يغلب عليهم الفجور، ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء، كما أفتى بجواز التيمم للنساء إذا ما كان الماء يؤثر على جمال وجههن ويصيبه بتغير لونه كما يحدث فى الشتاء، كما أفتى بجواز العيش فى البلاد التى يعم فيها الحرام، لأن ترك المؤمنين لهذه البلاد يمكن الفجار منها، وأفتى بضرورة ووجوب الثورة عند وقوع اغتصاب سلطة أو مال أو عرض قائلا: «إن ثورة المغصوبين على الغاصب واجبة»، كما اعتبر الإمام المتصوفة الحقيقيين الذين لا يسقطون العبادات ولا يؤمنون بالخرافات «أهل الحقيقة»، وكان على صلة مودة كبيرة بالحسن الشاذلى وإبراهيم الدسوقى، بل كان يقول لتلاميذه: «اسمعوا كلمتهم فهو قريب العهد من ينبوع الحقيقة».
وكان فى كل فتاواه بعيدا عن التقليد وقريبا من روح الشريعة، لا يأخذ من كل مذهب أحسنه، وينهر من يطالبونه بالالتزام بمذهب واحد، ويقول لهم: إن الله لم يأمرنا بأن نقلد الصحابة فكيف نقلد الأئمة أصحاب المذاهب.
لكن حدث ما جعل الشيخ الإمام المجاهد يترك عمله واجتهاداته ويخرج للناس مسرعا، فقد وصلت الأنباء إلى البلاد بأن الصليبيين يهاجمون دمياط، فخرج الشيخ إلى هذه البلدة ليحث الناس على الجهاد وملأ الدنيا دعوة للجهاد فى سبيل الله، فانتصر المصريون على الصليبيين، وكان له أكبر الأثر فى المعركة، ولما حاول التتار أن يغزوا مصر انتفض الشيخ مرة أخرى، وحث الناس على الجهاد، وحينما أراد الأمير قطز أن يفرض ضرائب جديدة على الناس منعه من ذلك، وقال له: خذ الأموال التى تريدها من أمرائك وأغنياء البلاد، واترك الفقراء لفقرهم فاستجاب الملك، وأخذ يحفز الناس على الجهاد حتى انتصر المصريون على التتار، وبعدها أصاب الشيخ الوهن والكبر، وعلم أن ميعاد لقائه بربه قريب، فقال لأبنائه: ساعدونى لأذهب إلى الدرس، وكان قد انقطع عنه منذ مدة، فساعدوه وجلس على جلسته يفسر القرآن ليلاقى ربه وهو يفسر الآية التى تقول: «الله نور السموات والأرض».